آخر زيارة لي لشيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى (٢)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده ... أما بعد :-
لقد وعدتكم إخواني القراء على أن أكمل ما كنت بدأت به في المقال السابق في الأسبوع الماضي فأقول وبالله أستعين وعليه أتوكل وإليه أنيب:
لقد كانت آخر زيارة لي لشيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى قبل وفاته بسنتين أو أكثر أو أقل. وصليت معه العصر فلما رآني الطالب محمد خليل النيجيري سلم علي ثم ذهب للشيخ وقال له : ها هو الشيخ سالم زارنا!
فقال الشيخ العثيمين: صحيح ؟ أين هو ؟؟ فجئته وسلمت عليه وقبلت رأسه فرحب بي ترحيباً جميلاً كعادته مع جميع الناس مبتسماً ، وقد اجتمع عليه مجموعة كبيرة من طلبة العلم والمستفتين فخرج من المسجد وخرجنا معه ثم وقف والتفت إلى من حوله
وقال لهم: أرجعوا أرجعوا. وكانوا نحو عشرين رجلاً أو يزيدون.
فقال أحدهم : ياشيخ أنا على موعد معك فهل تغير الموعد؟
فقال الشيخ : نعم تغير
ثم نظر وقال :- ياشيخ سالم تعال أنت .
فذهبت معه ماشياً من المسجد إلي بيته وعرفت أنه سيكلمني في أمر خاص وكان الحوار كالآتي :
الشيخ إبن العثيمين : يا شيخ سالم ما الذي سمعته عندكم في الكويت ؟؟
قلت : أحسن الله إليك ماذا سمعت ؟
الشيخ إبن العثيمين : سمعت أن المرأة ستشارك في السياسة فهل هذا صحيح ؟
قلت :- نعم يا شيخ ، وأنت ما رأيك ؟
الشيخ إبن العثيمين : هذا لا يجوز أن تقود المراة الرجال لأن الله تعالى يقول ( وللرجال عليهن درجة ) .
قلت : سمعت أنها رغبة الأمير وما تم شيء إلى الآن .
الشيخ إبن العثيمين : يا شيخ سالم أنا أريد أن أشاورك بشيء
قلت : أحسن الله إليك تفضل
الشيخ إبن العثيمين : إيش رأيك لو كتبت نصيحة لأميركم ثم أرسلتها معك إليه ؟
قلت : هذا شيء طيب ، إن قبل منك فبها ونعمت وإن لم يقبل فقد أديت حق الله الذي عليك ، ولكن أنا في حياتي ما رأيت الأمير ولا قابلته قط !!
الشيخ إبن العثيمين : إذاً كيف توصلها له ؟
قلت : ابحث عن شخص يعمل في الديوان الاميري ويوصلها له ، سأقول لك شيئا .
الشيخ إبن العثيمين : تفضل قل .
قلت : أميرنا (( الشيخ جابر )) رجل معروف بالصلاة والمحافظة عليها منذ شبابه ، الناس يشهدون له بذلك ولم يعرف عنه الفساد والفواحش .
الشيخ إبن العثيمين : أعرف هذا ، أعرف هذا ،أميركم ( رجل طيب ) لكن تدري إين المشكلة ؟
قلت : أين ؟
الشيخ إبن العثيمين : في الحاشية ، الحاشية !! أريت حكامنا
قلت : نعم
الشيخ إبن العثيمين : حكامنا هؤلاء لو لا الحواشي لصاروا خلفاء لكن الحواشي تؤثر عليهم .
قلت : أكتب النصيحة ثم أرسلها إلي وسأجتهد بتوصيلها .
أخي القارىء هنا ودعت شيخنا رحمه الله تعالى وسافرت عنه وكان هذا آخر لقاء لي به ، ولم يشأ الله تعالى أن يرسل لي رسالة لا أعلم عن ظروفه ، ولكن مشاغله كثيرة جداً جداً ثم أصيب بمرضه الذي توفي فيه رحمه الله وجزاه الله عنا خيراً. وجمعني وإياه ووالدي ووالديه وإياك أخي القارىء ووالديك وسائر المسلمين في جنات النعيم .
أخي القارىء الكريم حفظك الله ورعاك أريد أن تقف معي وقفات ونستنبط فوائد من هذا اللقاء المبارك مع شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى فأقول :
1- معرفة الشيخ بالواقع ومتابعته لما يستجد من أحداث بخلاف ما ظن بعض الناس واشاع آخرون أن العلماء منكبون على العلم ولا يعرفون واقع المسلمين ، والحق أن العلماء أعلم وأفقه الناس بأحوال المسلمين وهم يتابعون ويتلقون الأخبار من قلب الحدث ، لأن الناس يقصدونهم من كل مكان ويستفتونهم في كل واقعة ونازلة فيجتمع عندهم من الحقائق ماليس عند غيرهم فهم لا يعتمدون على التحليلات والتخمينات التي يعتمد عليها بعض المفلسين التي أطلقوا عليها ( فقه الواقع ) بل كادوا أن يطلقوا عليه (( الفقه الأكبر )) !!
2- تثبت الشيخ رحمه الله تعالى مما بلغه لما سألني عن صحة الخبر وحقيقته .
3-استدلال الشيخ المباشر بالدليل من القرآن فلم يبنِ الحكم على مجرد عاطفة أو حماسة بل قال لا يجوز لقوله تعالى ( وللرجال عليهن درجة ) البقرة -228
4- استنباط الشيخ الدقيق للحكم الشرعي من الآية القرانية لأن قول الله تعالى ( وللرجال عليهن درجة ) هذا في سياق الأزواج على زوجاتهم إلا أن الشيخ عمل بقاعدة ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ) فإذا كانت الزوجة أقل درجة من زوجها وحقوقها أقل من حقوقه فكيف يحق أن تتولى ولاية عامة على مئات الآلآف من الرجال!
5- تواضع الشيخ الجم فقد توجه إلي بالاستشارة على جلالة قدره وسعة علمه وما أنا إلا من جيل أبنائه !
6- حسن أدب الشيخ في الخطاب فلقد كنت أتعجب إذا ناداني بقوله (( ياشيخ سالم ))!
7- أن الشيخ رحمه الله تعالى لا يقول بتكفير ((أمير الكويت )) خلافاً لما نقل عنه بقصد أو بغير قصد أو بسوء فهم أو بالافتراء عليه وذلك من وجهين :
لو كان يقول بكفره لما هم أن يكتب له نصيحة في مسألة فرعية ، إذ ليس بعد الكفر ذنب
قوله أعرف أن أميركم رجل طيب !!
8- أهمية حاشية الطيبة المستقيمة الناصحة لكل مسؤول سواء كان أميراً أو حاكما أو دون ذلك .
9- خطورة الحاشية السوء الذين يأمرون بالشر ويحثون عليه ويفشون الأسرار ولا هم لهم إلا مصالحهم الشخصية فقد أخرج البخاري في صحيحه (7198) عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :- ( ما بعث الله نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان ، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم من عصم الله تعالى )) اسأل الله تعالى أن يرزق ولاة المسلمين البطانة الصالحة .
10- حرص الشيخ رحمه الله تعالى على القيام بواجب النصيحة لأئمة المسلمين لعل الله أن ينفع بها .
أخي القارىء الكريم هذا مايسر الله لي من استنباط لبعض الفوائد من آخر لقاء لي بشيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى وجزاه الله عنا خيراً ، ولعلك تستفيد فوائد أخرى لم تظهر لي. والله أسأل أن يوفقني وإياك وسائر المسلمين إلى العلم النافع والعمل الصالح والحمد لله أولا وآخراً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .