وقفات مع من قال بالمقاطعات (١)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده فلقد كتب أحد الوعاظ مقالا بعنوان فتاوى العلماء في (المقاطعة الاقتصادية) ولي وقفات مع مسألة المقاطعة أحببت أن أدلي بدلوي مستعينا بالله وحده ومتجرداً من حولي وقوتي، إذ لا حول ولا قوة إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
أقول: بعدما صرح سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية حفظه الله في حكم مقاطعة المنتجات الغربية واعتبر أن التهديد بمقاطعة المنتجات لا يخدم شيئا، وقال الواجب علينا الابتعاد عن الطعطعة والتشدد والفتوى بغير علم .. إلخ.
أقول: بعدها كتب الأخ الواعظ مقالا بعنوان فتاوى العلماء في (المقاطعة الاقتصادية) مما فهم منه كثير من الناس أن فتوى الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ تخالف فتوى سائر العلماء، وليس الأمر كذلك وبيان ذلك في الوقفة الأولى.
"الوقفة الأولى"
لم ينفرد الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله بهذه الفتوى بل أفتى غيره ممن سبقه من العلماء استناداً للأدلة من الكتاب والسنة:
فقد ورد في فتاوى اللجنة الدائمة رقم (21776) بتاريخ 1421/12/25هـ السؤال التالي: يتردد الآن الدعوات لمقاطعة المنتجات الأمريكية مثل البيتزاهت وماكدونالدز .. إلخ فهل نستجيب لهذه الدعوات وهل معاملات البيع والشراء مع الكفار في دار الحرب جائزة؟ أم أنها جائزة مع المعاهدين والذميين والمستأمنين في بلادنا فقط؟
الجواب: يجوز شراء البضائع المباحة أياً كان مصدرها ما لم يأمر ولي الامر بمقاطعة شيء منها لمصلحة الاسلام والمسلمين لأن الاصل في البيع والشراء الحل كما قال تعالى واحل الله البيع (البقرة: 275) والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود.
وسئل الشيخ العلامة المفتي عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى السؤال التالي: احسن الله اليك اذا علم ان هذا التاجر (رافضي) وان بضاعته معروفة هل يحذر منه على اساس انهم ما يشترون منه .. حتى انهم ما يدعمونه حتى ما يكون له دعم؟
الجواب: هذا محل نظر، الشراء من الكفرة جائز والنبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود، اشترى منهم ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام صلى الله عليه وسلم. لكن يبين لهم عقيدتهم حتى لا يتخذهم اصحاب ولا رفقاء، اما كونه يشتري منهم شيئا اذا دعت الحاجة لشرائه الامر سهل، المقصود الحذر من الموالاة والمحبة أو التساهل معهم أو تمرير اعمالهم والتساهل فيها يبين للناس كفرهم وضلالهم... الخ.
وسئل فضيلة شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى السؤال التالي: فضيلة الشيخ يوجد مشروب يسمى الكولا تنتجه شركة يهودية، فما حكم هذا المشروب؟ وما حكم بيعه وهل هو من التعاون على الاثم والعدوان؟
الجواب: "ألم يبلغك ان النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهودي طعاما لأهله ومات ودرعه مرهونة عند هذا اليهودي؟ ألم يبلغك ان الرسول عليه الصلاة والسلام قَبِلَ الهدية من اليهود؟ ولو اننا قلنا: لا، فات علينا شيء كبير من استعمال سيارات ما يصنعها اليهود واشياء نافعة اخرى لا يصنعها الا اليهود... الخ".
وسئل فضيلة الشيخ صالح بن فوزان آل فوزان حفظه الله تعالى السؤال التالي: فضيلة الشيخ وفقكم الله، يكتب في الصحف هذه الايام الدعوة لمقاطعة البضائع الامريكية وعدم شرائها وعدم بيعها ومن ذلك ما كتب في هذا اليوم في احدى الصحف من أن علماء المسلمين يدعون الى المقاطعة وان هذا العمل فرض عين على كل مسلم وان الشراء لواحدة من هذه البضائع حرام، وان فاعلها فاعل لكبيرة ومعين لهؤلاء ولليهود على قتال المسلمين فارجو من فضيلتكم توضيح هذه المسألة للحاجة اليها وهل يثاب الشخص على هذا الفعل؟
الجواب:
اولاً: اطلب صورة او قصاصة من هذه الجريدة ومن هذا الكلام الذي ذكره السائل.
ثانياً: هذا غير صحيح، فالعلماء ما افتوا بتحريم الشراء من السلع الامريكية، والسلع الامريكية ما زالت تُورد وتباع في اسواق المسلمين. وليس بضار امريكا اذا انت اشتريت منها ومن سلعها وليس بضارها هذا. ما تقاطع السلع الا اذا اصدر ولي الامر، اذا اصدر ولي الامر منعا ومقاطعة لدولة من الدول، فيجب المقاطعة، اما مجرد افراد انهم يريدون عمل هذا ويفتون فهذا تحريم ما احل الله لا يجوز.
اخي الكريم راجع هذه الفتاوى وقف عليها بنفسك في كتاب موثق وقدم له كبار العلماء بعنوان »الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية« لمحمد بن فهد الحصين من صفحة 223-219.
"الوقفة الثانية"
ان الاخ الواعظ لم يذكر مصدر الفتاوى التي نقلها فلعل لو وقفنا عليها لوجدنا فيها تقييدا او ايضاحا كقول بعضهم ان هذه المقاطعة تكون بإذن ولي الامر او في حال قوة المسلمين او مع نفعها ووجود المصلحة اما هكذا بهذا الاطلاق فلا يسلم له.
الوقفة الثالثة
الأخ الواعظ نقل قولا عن شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله انه قال: "المسلمون لو قاطعوا كل امة من النصارى تساعد الذين يحاربون اخواننا لكان له اثر كبير ولعرف النصارى وغير النصارى ان للمسلمين قوة وانهم يد واحد .." انتهى كلامه.
فأقول: لو صح هذا النقل عن شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى فانه لم يقل قاطعوا وانما قال: ((لو قاطعوا)) فحينئذ ينظر ولي الامر مدى فعالية هذه المقاطعة ومصالحها ومفاسدها ثم يأمر بالمقاطعة او عدمها. وقد سمعت بنفسي شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى يسأله سائل: هل نقاطع البضائع الامريكية؟ فأجاب قائلاً: "خذ ما اباح الله واترك ما حرم الله".
اقول: والعجيب ان بعض هؤلاء الدعاة كانوا يسعون في مقاطعة البضائع الغربية والامريكية ايام استعداد جيش التحالف لتحرير الكويت من الاحتلال الصدامي البعثي الصليبي الكافر، وكنت اتعجب كما يتعجب غيري ما مصلحة هؤلاء الدعاة بأن يستمر الاحتلال على الكويت فمنهم المطرود ومنهم المضطهد ومنهم الاسير ومنهم الخائف، فكان بعضهم يقول ليس حباً في صدام ولكن بغضا في امريكا وبعضهم يقول لانها حرب بين الاسلام والصليبية وبعضهم يقول هذه خطة للاحتلال الصليبي. فهدى الله الولاة والعلماء الى ما فيه خير العباد والبلاد ولو اتبعنا سفهاء الاحلام حدثاء الاسنان لضاع الدين والدنيا لكن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
"الوقفة الرابعة"
الامثلة التي ذكرها الواعظ في مقاله كلها امثلة عكسية فهي مقاطعة القوي للضعيف لا مقاطعة الضعيف للقوي وهذا والله غريب جدا يقول القصاص بالحرف الواحد: "لم ينقطع هذا الاسلوب الذي يعتبر من وسائل الحرب بين الخصوم على مر التاريخ حتى في عصرنا هذا فان الدول الكبرى مارسته ضد (ليبيا) و(سورية) و(حكومة طالبان) و(العراق) وغيرها من الدول غير الاسلامية ايضا" انتهى الكلام، فأقول: سبحان الله هذه شهادة منه بأن الذي يقاطع هو الأقوى وقد تحاشى كلمة "أمريكا" فقال "الدول الكبرى" واعترف بأن هذه المقاطعات نوع من العقوبة والحصار فإذن نحن المحتاجون الى من يمدنا بالأسلحة والطائرات والسيارات والمولدات والمصافي والمصانع والأدوية فالمسألة ليست متوقفة على "البيبسي كولا والسندويشات" فكم سيحبط المسلم اذا رأى نفسه متناقضا بل يرى نفسه في حرج والله تعالى يقول: ((وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )) [الحج:78].
"الوقفة الخامسة"
الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بالله وزعموا انه اتخذ صاحبة وولدا وقالوا إن الله فقير ويد الله مغلولة وكذبوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستهزأوا به واتهموه بالجنون والسحر وحاربوه وطردوه وقتلوا اصحابه وجرحوه وتحزبوا عليه ونقضوا عهده وسمموه وسحروه واتهموا زوجته ومنعوه من بيت الله وغير ذلك ومع هذا كله لم يقاطع احداً!! روى البخاري في صحيحه (2916) ومسلم (1603) عن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير".
سبحان الله العظيم الرسول صلى الله عليه وسلم لو طلب من الصحابة ان يفدوه بأرواحهم لفعلوا فلماذا يشتري من يهودي شعيراً بالدَّين في آخر حياته وليس عنده قيمته ولكن يرهن درعه مقابل الثمن ويتوفاه الله تعالى ودرعه عند اليهودي؟!! نعم اراد الله ان يبقى هذا الشرع يتعبد الناس به ليعلم الناس جميعاً ان التعامل مع اليهود المعتدين وغيرهم من الكفار باقٍ لم يُنسخ الى آخر لحظة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. وللحديث بقية. والحمدلله اولا واخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.