الصبر، الهجرة، القتال، الهدنة، الجزية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان الا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين اما بعد:
فلقد ارسل الله تعالى رسوله بالهدى وهو العلم النافع ، ودين الحق وهو العمل الصالح ولو كره المشركون. وما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الا وقد اكمل الله تعالى به الدين واتمَّ عليه وعلى امته النعمة وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها الا هالك. ومن تأمل سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدبر احواله عرف حق المعرفة كيف يتعامل مع كل ازمة تلم به او نازلة تنزل عليه.
كيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اعدائه؟
لاشك ان دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت ضعيفة شأنها كشأن اي شيء في بدايته فلقد كانت الصولة والجولة والكثرة والغلبة للمشركين في مكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ بأصحابه يعذبون فيأمرهم بالصبر كما في حديث جابر رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بعمار واهله يعذبون فقال: ((ابشروا آل عمار وآل ياسر فان موعدكم الجنة)) رواه البيهقي (صحيح السيرة النبوية للالباني برقم 154). وفي رواية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يمرُّ بعمار وامه وابيه وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة فيقول: ((خيراً يا آل ياسر فان موعدكم الجنة)) رواه البيهقي في شعب الايمان والحاكم في المستدرك وقال الالباني حسن صحيح (فقه السيرة 103). ولاشك ان المسلمين اذا كانوا في حال ضعف لا يناسبهم الا الصبر لان مواجهة الكفار بالقتال قد يعود عليهم بزيادة القتل او الإبادة وحينئذٍ ستكون المواجهة خاسرة فلا فائدة منها.
قتل الكافر أيام ضعف المسلمين اشد من قتل المسلم
من المقرر شرعا عند اهل العلم ان المنكر لا يغير بمنكر اكبر منه ولا تُدفع المفسدة بمفسدة اكبر منها، لذا لا يجوز لمسلم أن يقتل كافراً أو كافرين أو ثلاثة اذا كان في ذلك ضرر كبير على المسلمين، فإذا كان قتل المسلم من أكبر الكبائر كما قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [سورة النساء 93] فإن من اهل العلم من قال قتل الكافر ايام ضعف المسلمين اشد من قتل المسلم وذلك لأن الكفار سيقتلون اضعافاً كثيرة من المسلمين مقابل ذلك الكافر المقتول، فيا ليت يفقه هذا أولئك الذين يزجون بين الحين والآخر بالمستضعفين من المسلمين (1).
مشروعية الهجرة لمن لا يستطيع اقامة شرائع دينه
لقد اذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض اصحابه بالهجرة الأولى الى الحبشة ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة وترك مكة التي هي احب البلاد الى الله تعالى والى رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الله تعالى انما خلق الجن والانس لعبادته لا ليستوطنوا هنا أو هناك قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)) [سورة النساءٍ] ، قال الحافط ابن كثير رحمه الله تعالى: ((هذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وان المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه)) أ. هـ. قلت: ما زال الناس في كثير من بلاد العالم يهاجرون من اجل تحصيل مستوى افضل فيسافر اهل المشرق الى المغرب واهل المغرب الى المشرق ويسافر ابناء المسلمين الى بلاد الكفار ويستوطنون هناك من اجل الدراسة والعمل فما المانع ان يهاجر المسلم فراراً بدينه ويتخلى عن بلده وارضه ليعبد الله وحده؟!
الجهاد مشروع ومن أعظم القربات الى الله وذروة سنام الإسلام
لا ينازع احد في مشروعية الجهاد وفضله فأدلته كثيرة معلومة فهي اشهر من أن تذكر، لكن ما لا يفقهه كثير من الناس ان الجهاد وسيلة وليس غاية فهو مشروع لاقامة الدين وتحقيق التوحيد قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [سورة البقرة 193] والفتنة: الشرك ويكون الدين لله أي يتحقق التوحيد. وروى البخاري [25ٍ] ومسلم [22] من حديث عبدالله بن عمر قال رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله.
وكذلك شرع الله الجهاد لتحقيق مصالح المسلمين ودفع وطأة الكفار فمتى كان ذلك هو الدافع للجهاد وإلا ليس بمشروع. فليس الجهاد للسمعة والرياء ولا للرياسة والمال ولا حمية كحمية الجاهلية وإنما لتكون كلمة الله هي العليا، فذلك الجهاد المشروع الذي امر الله تعالى به ورسوله. وهذا الامر الجلل العظيم للأسف يغيب عن كثير من المسلمين فتجدهم يقعون في عبادة الأولياء والاستهزاء بالدين وسب الله ورسوله وانتهاك حرمات الله تعالى وتنازع وفشل ثم يدعون الناس الى الجهاد!! وما يدريك لو خرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدهم قبل أن يجاهد الكفار. فالواجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يصححوا عقائدهم ومناهجهم ويدعون عامة المسلمين الى عبادة الله وحده والتمسك بسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبل توريطهم بحروب خاسرة ومآس أليمة.
المصالحة والهدنة امر مشروع اذاكان في صالح المسلمين
لا مانع من الصلح مع الكفار ولو كانوا غاصبين لأرض المسلمين اذا اقتضت المصلحة ذلك ليأمن المسلمون في بلادهم ويتمكنوا من اقامة دينهم. وهذا ما افتى به الشيخ العلامة المفتي الناقد البصير عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى في عام 1415 هـ - 1995 م ولقد كانت لفتواه ردود فعل كثيرة عند المخالفين لكن الشيخ رحمه الله تعالى عقب على كلامهم بكلام علمي نفيس انصح من له اهتمام ان يقف عليه بنفسه فهو في فتاواه (226-229/8) تحت عنوان ايضاح وتعقيب على مقال فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي حول الصلح مع اليهود. ومن جملة ما قال رحمه الله تعالى: ونقول للشيخ يوسف وفقه الله وغيره من أهل العلم: ان قريشاً قد اخذت اموال المهاجرين ودورهم كما قال الله سبحانه في سورة الحشر (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8). ومع ذلك صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم الحديبية سنة ست من الهجرة ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه و سلم لجميع المسلمين من المهاجرين وغيرهم ولمن يرغب الدخول في الإسلام. ونقول أيضا: جواباً لفضيلة الشيخ يوسف عن المثال الذي مثل به في مقاله وهو: لو أن إنساناً غصب دار إنسان وأخرجه إلى العراء ثم صالحه على بعضها.. أجاب الشيخ يوسف: أن هذا الصلح لا يصلح.. وهذا غريب جداً بل هو خطأ محض، ولا شك أن المظلوم إذا رضي ببعض حقه واصطلح مع الظالم في ذلك فلا حرج، لعجزه عن أخذ حقه كله، وما لا يدرك كله لا يترك كله وقد قال الله عز وجل (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا) [سورة التغابن - 16] وقال سبحانه: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [سورة النساء - 128] ولا شك أن رضا المظلوم بحجرة من داره أو حجرتين أو أكثر يسكن فيها هو وأهله خير من بقائه في العراء. وأما قوله عز وجل (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) [سورة محمد -35] فهذه الآية فيما إذا كان المظلوم أقوى من الظالم وأقدر على أخذ حقه فإنه لا يجوز له الضعف والدعوة إلى السلم وهو أعلى من الظالم وأقدر على أخذ حقه أما إذا كان ليس هو الأعلى في القوة الحسية فلا بأس أن يدعو إلى السلم كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره هذه الآية. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلم يوم الحديبية، لما رأى أن ذلك هو الأصلح للمسلمين والأنفع لهم وأنه أولى من القتال وهو عليه الصلاة والسلام القدوة الحسنة في كل ما يأتي ويذر لقول الله عز وجل ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) [سورة الأحزاب21] ولما نقضوا العهد وقدر على مقاتلتهم يوم الفتح غزاهم في عقر دارهم، وفتح الله عليه البلاد ومكنه من رقاب أهلها حتى عفا عنهم، وتم له الفتح والنصر ولله الحمد والمنة. ا.هـ.
أخي القارئ الكريم إذن تبين لنا بحمد الله أن المسلمين يُشرع لهم الصبر والهجرة والقتال والهدنة وأخذ الجزية حسب حالهم وما تقتضيه مصلحتهم وظهر لنا خطأ من يزج بالمسلمين في حروب خاسرة تجر خلفها كثيرا من الخسائر في الأرواح والأموال. والله المسؤول أن يوفقنا وجميع المسلمين - قادة وشعبا - لكل ما فيه رضاه وأن يمنحهم الفقه في دينه والاستقامة عليه وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح قادة المسلمين ويوفقهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها والحذر مما يخالفها إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
(1) ظن بعض الناس أننى ادعو الى قتل المسلمين ولعل هذا الظن الفاسد بسبب سوء القصد وإلا الأمر واضح جداً فأنا اقول قتل المسلم أهون من التسبب بقتل آلاف المسلمين وهذا امر مسلم به.