موقع الشيخ
حفظه الله
سالم بن سعد الطويل

ولا يغْتبْ بعْضُكُمْ بعْضاً

3 جمادى الآخرة 1431 |

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان الا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه اجمعين، أما بعد:

فان الغيبة من كبائر الذنوب وقد جاء في الكتاب والسنة النهي عنها الأكيد والوعيد الشديد والأدلة اشهر مما تذكر ومنها على سبيل الذكرى لنفسي وللآخرين قال تعالى: {ولا يغْتبْ بعْضُكُمْ بعْضاً أيُحِبُّ أحدُكُمْ ان يأْكُل لحْم أخِيهِ ميْتًا فكرِهْتُمُوهُ واتّقُوا اللّه ان اللّه توّابٌ رحِيمٌ (12)} [الحجرات].

وروى البخاري (1739) ومسلم (66) عن ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: (يا أيها الناس أي يوم هذا؟) قالوا يوم حرام.قال: (فأي بلد هذا؟) قالوا بلد حرام.قال: (فأي شهر هذا؟) قالوا: شهر حرام.قال: (فان دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام لحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال: (اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟).

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (انهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فيعذب في البول وأما الآخر فيعذب في الغيبة) [رواه أحمد في المسند (5/ 35- 36) وابن ماجه (1/ 349) واللفظ له وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 485) اخرجه أحمد والطبراني باسناد صحيح وقال الألباني حسن صحيح].

وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه ابو داود (4880) وقال الحافظ العراقي في الاحياء (3/ 104) سنده جيد وقال الألباني حسن صحيح.

وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) رواه أحمد في المسند (1/ 190) واللفظ له، وأبو داود (4876) وصححه الألباني في الصحيحة (1433).

[تعريف الغيبة]

والذي ينبغي لكل مسلم ان يعرف معنى الغيبة حتى يتجنبها وأحسن تعريف للغيبة ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبِي هُريْرة رضي الله عنه ان رسُول اللّهِ صلّى اللّهُ عليْهِ وسلّم قال: (أتدْرُون ما الْغِيبةُ؟) قالُوا: اللّهُ ورسُولُهُ أعْلمُ قال: (ذِكْرُك أخاك بِما يكْرهُ) قِيل: أرأيْت ان كان فِي أخِي ما أقُولُ قال: (ان كان فِيهِ ما تقُولُ فقدْ اغْتبْتهُ وانْ لمْ يكُنْ فِيهِ فقدْ بهتّهُ) رواه مسلم (2589) ومعنى بهته أي قلت فيه البهتان وهو الباطل.

اذن الغيبة هي الوقيعة في الناس فيقال: اغتاب الرجل صاحبه اغتيابا اذا وقع فيه، وهو ان يتكلم خلف انسان مستور بسوء، أو بما يغمه لو سمعه وان كان فيه، فان كان صادقا، فهو غيبة، وان كان كاذبا فهو البهت والبهتان.

وقيل باختصار: الغيبة هي ذكر العيب بظهر الغيب.

[سؤال: ما الذي تصدق فيه وتؤثم عليه؟!]

أخي القارئ الكريم اذا عرفت ما ذكرته لك تبين الجواب على ذلك السؤال فمن تكلم عن أخيه المسلم في غيبته بما يكره بصدق فهو آثم مرتكب لكبيرة من الكبائر! فاذا أدركت هذه الحقيقة عرفت ما فيه الناس اليوم من الانغماس بالذنوب وهم لا يشعرون ! فترى كثيرا منهم لا يكاد يترك أحدا من غير تفصيل ففلان كذا وفلانة كذا وآل فلان كذا فاذا قيل له اتق الله ولا تغتاب الناس قال: أنا صادق بما اقول والحقيقة هي كما قلت! فهذا المسكين الغافل قد شهد على نفسه بمعصية الغيبة وهو يحسب أنه يحسن صنعا!

أخي القارئ العزيز وفقني الله واياك الى الهدى والتقوى تدبر هذا الحديث. عنْ عائِشة رضي الله عنها قالتْ: قُلْتُ لِلنّبِيِّ صلّى اللّهُ عليْهِ وسلّم حسْبُك مِنْ صفِيّة كذا وكذا- تعْنِي قصِيرةً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقدْ قُلْتِ كلِمةً لوْ مُزِجتْ بِماءِ الْبحْرِ لمزجتْهُ) قالتْ: وحكيْتُ لهُ انْسانًا- أي قلدته- فقال: (ما أُحِبُّ أنِّي حكيْتُ انْسانًا وأنّ لِي كذا وكذا) رواه أبو داود (4875) والترمذي (2502) وقال الألباني: صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب (2834).

الله اكبر فماذا سيقول النبي صلى الله عليه وسلم لو سمع كلامنا اليوم في بعضنا؟!

[ كلام سديد من رجل رشيد ]

أخي القارئ نقلت لك هذه السطور عن شيخ الاسلام ابن تيمية رحِمهُ اللّهُ تعالى فتأمله جيدا.

يقول: (فمِنْ النّاسِ منْ يغْتابُ مُوافقةً لِجُلسائِهِ وأصْحابِهِ وعشائِرِهِ مع عِلْمِهِ ان الْمُغْتاب برِيءٌ مِمّا يقُولُون أوْ فِيهِ بعْضُ ما يقُولُون، لكِنْ يرى أنّهُ لوْ أنْكر عليْهِمْ قطع الْمجْلِس واسْتثْقلهُ أهْلُ الْمجْلِسِ ونفرُوا عنْهُ فيرى مُوافقتهُمْ مِنْ حُسْنِ الْمُعاشرةِ وطِيبِ الْمُصاحبةِ وقدْ يغْضبُون فيغْضبُ لِغضبِهِمْ فيخُوضُ معهُمْ.ومِنْهُمْ منْ يُخْرِجُ الْغِيبة فِي قوالِب شتّى.تارةً فِي قالِبِ دِيانةٍ وصلاحٍ فيقُولُ: ليْس لِي عادةً ان أذْكُر أحدًا الّا بِخيْرِ ولا أُحِبُّ الْغِيبة ولا الْكذِب، وانّما أُخْبِرُكُمْ بِأحْوالِهِ.ويقُولُ: واللّهِ انّهُ مِسْكِينٌ أوْ رجُلٌ جيِّدٌ، ولكِنْ فِيهِ كيْت وكيْت.ورُبّما يقُولُ: دعُونا مِنْهُ اللّهُ يغْفِرُ لنا ولهُ، وانّما قصْدُهُ اسْتِنْقاصُهُ وهضْمٌ لِجانِبِهِ.ويُخْرِجُون الْغِيبة فِي قوالِب صلاحٍ ودِيانةٍ يُخادِعُون اللّه بِذلِك كما يُخادِعُون مخْلُوقًا، وقدْ رأيْنا مِنْهُمْ ألْوانًا كثِيرةً مِنْ هذا وأشْباهِهِ.ومِنْهُمْ منْ يرْفعُ غيْرهُ رِياءً فيرْفعُ نفْسهُ فيقُولُ: لوْ دعوْت الْبارِحة فِي صلاتِي لِفُلانِ، لما بلغنِي عنْهُ كيْت وكيْت لِيرْفع نفْسهُ ويضعهُ عِنْد منْ يعْتقِدُهُ.أوْ يقُولُ: فُلانٌ بلِيدُ الذِّهْنِ قلِيلُ الْفهْمِ، وقصْدُهُ مدْحُ نفْسِهِ واثْباتُ معْرِفتِهِ وأنّهُ أفْضلُ مِنْهُ.ومِنْهُمْ منْ يحْمِلُهُ الْحسدُ على الْغِيبةِ فيجْمعُ بيْن أمْريْنِ قبِيحيْنِ: الْغِيبةِ والْحسدِ.واذا أثْنى على شخْصٍ أزال ذلِك عنْهُ بِما اسْتطاع مِنْ تنقُّصِهِ فِي قالِبِ دِينٍ وصلاحٍ أوْ فِي قالِبِ حسدٍ وفُجُورٍ وقدْحٍ لِيُسْقِط ذلِك عنْهُ.ومِنْهُمْ منْ يُخْرِجُ الْغِيبة فِي قالِبِ تمسخر ولعِبٍ ليُضْحِك غيْرهُ بِاسْتِهْزائِهِ ومُحاكاتِهِ واسْتِصْغارِ الْمُسْتهْزأِ بِهِ.ومِنْهُمْ منْ يُخْرِجُ الْغِيبة فِي قالِبِ التّعجُّبِ فيقُولُ تعجّبْت مِنْ فُلانٍ كيْف لا يفْعلُ كيْت وكيْت ومِنْ فُلانٍ كيْف وقع مِنْهُ كيْت وكيْت وكيْف فعل كيْت وكيْت فيُخْرِجُ اسمهُ فِي معْرِضِ تعجُّبِهِ.ومِنْهُمْ منْ يُخْرِجُ الِاغْتِمام فيقُولُ مِسْكِينٌ فُلانٌ غمّنِي ما جرى لهُ وما تمّ لهُ فيظُنُّ منْ يسْمعُهُ أنّهُ يغْتمُّ لهُ ويتأسّفُ وقلْبُهُ مُنْطوٍ على التّشفِّي بِهِ ولوْ قدر لزاد على ما بِهِ ورُبّما يذْكُرُهُ عِنْد أعْدائِهِ لِيشْتفُوا بِهِ.وهذا وغيْرُهُ مِنْ أعْظمِ أمْراضِ الْقُلُوبِ والْمُخادعاتِ لِلّهِ ولِخلْقِهِ.ومِنْهُمْ منْ يُظْهِرُ الْغِيبة فِي قالِبِ غضبٍ وانْكارِ مُنْكرٍ فيُظْهِرُ فِي هذا الْبابِ أشْياء مِنْ زخارِفِ الْقوْلِ وقصْدُهُ غيْرُ ما أظْهر والله المستعان) انتهى كلامه [مجموع الفتاوى (28/237- 238)].

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.

المقالات