يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الله تعالى أنكر على عباده المؤمنين الذين يقولون الخير ويحثون عليه وربما تمدحوا به وهم لا يفعلونه.
ومن ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لسورة «الصف» عن علي بن أبي طلحة وابن عباس رضي الله عنهم في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) } [الصف] قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفرض الجهاد يقولون لو وددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به، فلما نزل الجهاد كَرِه ذلك ناس من المؤمنين وشقَّ عليهم أمره، فقال سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) } [الصف] وهذا اختيار ابن جرير. انتهى كلامه.
وقال أيضاً: ومنهم من يقول - أي من المفسرين - : أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل: «قاتلت»، ولم يقاتل و«طعنت» ولم يطعن و«ضربت» ولم يضرب، و«صبرت» ولم يصبر. وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون: «قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا». ولم يكونوا فعلوا ذلك. انتهى كلامه.
أخي القارئ إذا علمت ذلك فاحذر أن يصدق عليك قوله تعالى { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) } [الصف 2] واحذر أن يصدق عليك ما وصف الله عز وجل به بعض أهل الكتاب في قوله تعالى في سورة آل عمران { لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) } [آل عمران].
أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر
في هذه الأيام ارتفعت أصوات هنا وهناك تنادي بالجهاد والذي من أفضله كلمة حق أو عدل عند سلطان جائر، واستدلوا بحديث «أفضل الجهاد كلمة عدل (وفي رواية: حق) عند سلطان جائر».
قال الألباني في «السلسلة الصحيحة» [1 / 806]:
«ورد من حديث أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة، وطارق بن شهاب، وجابر بن عبدالله، والزهري مرسلاً».
وممن ذكر - رحمه الله - أنهم أخرجوه: أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم والحميدي وغيرهم.
قلت: وليس لهم من هذا الحديث إلا الدعوة المجردة، فهم في منأى عن العمل به، بل ما فقهوا الحديث ولا تدبروا لفظه على الرغم من أن الحديث جلي واضح، فهو في شأن من قام في وجه سلطان جائر وقال بين يديه كلمة حق أو عدل، وفي هذه الحالة قد يغضب الحاكم الجائر فيقتله أو يأمر بقتله، فليت شعري أين هذا الحديث وفقهه والعمل به من ذلك الذي يُدعى "نبيل"، كتب مقالاً بعنوان: (أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر)، زاعماً في مقاله أنه يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم وكأنه يريد أن يُحمد بما لم يفعل، فهو لم يقل كلمة حق عند السلطان، بل كتب مقالاً ذكر فيه مظالم أحد الحكام وبينه وبين الحاكم آلاف الأميال، بل هو في قارة آسيا والحاكم في قارة أفريقا، بل الحاكم قد أحيط به فهو لا يملك لنفسه دفع الضر ولا تحويلاً فضلاً على أن يقدر أن يبطش به أو يقتله.
وبالرجوع إلى شرح هذا الحديث ذكر أهل العلم أن المراد بهذا الحديث، الرجل يكون بطانة لذي سلطان، والسلطان إما أن يكون عادلاً وإما أن يكون ظالماً، فإذا كان عادلاً وقال له كلمة عدل أو كلمة حق قَبِل منه ذلك، أما إذا قال له كلمة باطل فلا يقبلها ولكن قد يتأثر بها، وأما السلطان الجائر الظالم فإن قال له كلمة باطل توافق ظلمه وجوره قَبِلها، وإن قال له كلمة حق لم يقبلها، ولأنه ظالم وذو سلطان فيمكن أن يهابه الناس ولا يقولون له كلمة الحق، لذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة العظيمة، لمن قام لسلطان جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر وبالتي هي أحسن للتي هي أقوم على علم وبصيرة، لا يريد بكلمته عرضاً من الحياة الدنيا ولا سمعة ولا رياء مع توقعه أن يبطش به وربما يسجنه بل ربما يقتله، راجياً ما عند الله عز وجل فهو خير وأبقى، فأسألك بالله العظيم أيها القارئ الكريم وأيها الكاتب أين هذه الصورة من صورةِ ما يفعله بعض الناس اليوم؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم اشترط لنيل هذه الدرجة أن تكون الكلمةُ كلمةَ حقٍ، كأن يقول أحكم بيننا بكتاب الله، أقم شرع الله، انصر التوحيد، انبذ الشرك، انشر السنة، اقمع البدعة، شجع الفضيلة، وحارب الرذيلة، وغير ذلك مما هو من طاعة الله ورسوله، والنبي صلى الله عليه وسلم وصف هذا الرجل بأنه يقول كلمة الحق فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من غير سِباب ولا مظاهرات ولا تنديد ولا خروج ولا تخريب ولا مطالبة بالحرية المزعومة والديموقراطية الغربية المشؤومة، فمن لم يفعل ذلك كيف يُستدل له بهذا الحديث، فلا إله إلا الله ما أعظم الجهل الذي من أقبحه الجهل المركب فأحدهم جاهل ولا يعلم أنه جاهل بل يظن في نفسه أنه عالم وما ادْرَكَ أن جهله جهل مركب.
لا يعلم الغيب إلا الله
هذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ولكن عند التطبيق نرى عجائب من تصريحات بعض الناس فهذا - الدكتور عجيل النشمي - أحد دعاة المظاهرات بعد ما طال النقاش حول المظاهرات قال بالحرف الواحد:
«الذي كَدَّر الصفوَ أن بعض الكاتبين من الجانبين اتبع طريقة التسفيه للرأي المخالف وتخلل عباراته ما لا يليق من المنابزة والهمز واللمز والتصريح والتجريح منطلقاً من أن رأيه صواب قطعاً لا يحتمل إلا الصحة، ورأي المخالف خطأ لا يحتمل الصواب، فتدنى في الأسلوب إلى حد بعيد فأهان العلماء بأسمائهم وما يدري أنه يهدي من حسناته للغير، وكان أكبر الحاصدين للحسنات الشيخ يوسف القرضاوي، هذا ما كدر»
قلت: سبحان الله وما يدريك يا دكتور أن القرضاوي أكبر الحاصدين للحسنات؟! فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، لكن الذي يُخشى منه أنك تريد أن لا يُنْتقد القرضاوي وأمثاله في شيء مهما صرح ومهما قال ومهما اخطأ!!
لقد دعا القرضاوي الجيش المصري إلى الانقلاب العسكري والذي لو حصل فالمتوقع من ذلك سقوط قتلى وضحايا لا يعلم قدرهم إلا الله تعالى، كما أنه بارك المظاهرات في ميدان التحرير طلباً للحرية والديموقراطية لا قياماً لشرع الله عز وجل بل امتدح وقوف النصراني إلى جانب المسلم فهذه دعوة صريحة بأن الأمر ليس المراد منه أن تكون كلمة الله هي العليا!! فهل يُسكت عن القرضاوي حينئذ خوفاً من أن يحصد الحسنات؟! إن في هذا دعوة مبطنة للسكوت عن الباطل الذي يقرره القرضاوي وأمثاله بحجة إما أن تمسكوا عنه وإلا سيحصد حسناتكم، واعلم يا دكتور أن ثمة مسائل عقدية وأصولاً ثابتة، لا يقال فيها إنها مسائل تحتمل الخطأ والصواب، ولا يقال إننا لا نقطع بأن الحق معنا ولا يحتمل إلا الصحة وقول المخالف خطأ وضلال ولايتحمل الصواب، بل نجزم بلا أدنى تردد عندما نقول الحق ونرد الباطل، أما طريقك ودعوتك هذه فكم ضاع من الدين بسببها، وذلك عندما جُعلت مسائل الاعتقاد والمسائل المعلومة من الدين بالضرورة شأنها شأن المسائل الفقهية العملية الاجتهادية والحق أن بين الأمرين فرقاً كبيراً.
لكن الدكتور المنظِّر لم يدرك ذلك لذا قال:
«اطلعت على العديد من الردود من المعارضين والمؤيدين لموضوع طاعة ولي الامر وموضوع المظاهرات ومدى شرعيتها بين مؤيد ومبيح ومعارض ومحرم وسعدت كثيراً واستبشرت خيراً أن الموضوع حقق غرضه في إيصال معلومة أو رسالة إلى القارئ الكريم بأن هذين الموضعين فيهما وجهات محتملة الصحة وأن الاختلاف فيهما سائغ ورسخ في بعض ذهن القارئ بعض المفاهيم، وترك الرأي والاختلاف يترك القارئ أن يتخير بين الاتجاهين ما يرى أنه مقنع من حيث أدلته واستشهاداته، فاعتقد أن هذه ظاهرة طيبة أن يختلف الفقهاء أو العلماء وحتى طلبة العلم ويدلي كل بحجته» انتهى كلامه.
فانظر أيها القارئ كيف جعل عقيدة وجوب طاعة ولي الأمر التي أمر الله عز وجل بها في كتابه وأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته والتي لا يستقيم حال الدين والدنيا إلا بها، والتي عدها العلماء من مسائل الاعتقاد ونصوا عليها في كتبهم المطولة والمختصرة.
أقول: هذا الدكتور المنظر جعل هذه المسألة المهمة مسألة مختلفاً فيها وظاهرة طيبة أن يحصل فيها الخلاف ويذكر فيها وجهات النظر ومحتملة للصحة والخطأ والاختلاف فيها سائغ، والحق أن هذا الكلام باطل وخطير، بل فيه فتح باب شر أمام عموم القراء إذا جعل لهم الحق أن يتخيروا بين الاتجاهين ما يرونه مقنعاً وهذا الكلام ظاهر البطلان ودعوة إلى الفوضى والفتنة.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً
أي اتقوا الله وقولوا قولاً صادقاً، أخي القارئ بينما يدعو دعاة الفوضى إلى مسيرات سلمية ومظاهرات بلا تخريب تجدهم من أكبر المؤيدين للانقلابات وسفك الدماء والقتل بغير حق والزج بالأبرياء وتشجيعهم على الانتحار ووصفهم إياهم بالشهداء، فدعوتهم هذه فيها كل شيء إلا الصدق وقد جمعوا بين النقيضين والله المستعان.
أسأل الله عز وجل ان يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن في بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين وأن يصلح أحوالنا حكاماً ومحكومين.
الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.