لماذا نشنِّع على من منع التبرع؟!
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن المسلمين تمر عليهم ظروف صعبة جداً بين الحين والآخر من اعتداء ونكبات وتسلط أعدائهم عليهم تسلطاً شديداً، الأمر الذي يوجب عليهم ان ينصر بعضهم بعضاً وبهذه المناسبة أحببت ان أذكِّر اخواني المسلمين بما ينفعهم فأقول:
لا يخفى على كل مسلم أن التبرع لنصرة المسلمين من الجهاد في سبيل الله تعالى، فالآيات والأحاديث في ذلك كثيرة جداً كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ان كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)} [الصف]، وقوله تعالى: {انَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} [الحجرات]، وغيرها من الأدلة التي هي أشهر من أن تذكر.
ومما لا شك فيه أن عاطفة المسلمين نحو إخوانهم المسلمين شديدة وكبيرة وهذا أمر محمود لاسيما إذا ظلموا و اعتدي عليهم بغير حق، فالمسلمون كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب -باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم- حديث:4791 ].
لا يجوز لأي مسلم أن يشكك باخوانه المسلمين أو يتهمهم بعدم حبهم للمسلمين، أو بالتخاذل عن نصرتهم مظهراً نفسه بأنه أكثر من غيره غيرة وجهاداً ونصرة للحق وأهله.
الأصل أن المسلم يعمل لوجه الله تعالى لا ليقال فلان شجاع أو جواد أو نحو ذلك لذا يجب على المسلم أن يخاف على نفسه فيخلص عمله لله و ليحذر من أن يعمل ليقال عنه كذا و كذا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» [ صحيح مسلم - 1905]. ولا أدري لماذا بعض الناس إذا ذكر بهذا الحديث تضايق و ساءه الأمر و اتهم من يذكره بالحديث بأنه يشكك في نيته أو يتهم بسرقة الأموال والتبرعات؟
الانسان مبتلى في كل لحظة وحين والله تعالى يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)} [الملك]، فلا يأمن على نفسه أن يُفتن بالمال -أي أموال التبرعات- إذا توافرت بين يديه مبالغ كبيرة ذات مصادر متعددة وليس عليه رقيب إلا الله تعالى، فالمال فتنة كما قال الله تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن 15]، و قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل أمة فتنة، و إن فتنة أمتي المال» [صحيح ابن حبان - كتاب الزكاة- باب جمع المال من حله وما يتعلق بذلك - ذكر البيان بأن المال قد يكون فيه فتنة هذه الأمة- حديث: 3282]. لذا ينبغي للعاقل أن يحرص على سلامة دينه وعرضه فلا يسارع في كل مناسبة الى جمع التبرعات فالأموال فتنة والفتنة الواجب أن تٌجْتَنب لا أن تُجْتَلب.
كما أنه لا يجوز التشكيك في أمانة من يجمع التبرعات كذلك لا يجوز تزكيتهم تزكية مطلقة وكأنهم منزهون عن كل عيب ونقص وآفة. وكل من له أدنى متابعة فهو على بصيرة بحقائق لحوادث وشواهد غير قابلة لأدنى شك أن من الناس من يختلس من أموال التبرعات وغيرها فالأمانة اليوم أمرها عزيز والشواهد كثيرة ولا ينكرها إلا مكابر.
لا يجوز لمن يجمع التبرعات أن يحرج على المسلمين ويحرجهم ليتبرعوا بحيث يشعرهم بأنهم خذلوا إخوانهم المسلمين دون أن يعرف ظروف الناس فقد يكون بعضهم معسراً أو غير مقتنع بالمشاركة في الحرب أو أنه يرى أن مفسدتها أكبر من مصلحتها أو لأي سبب آخر ليس بالضرورة أن يفصح به.
من حق ولي الأمر أن ينظم عملية جمع التبرعات لاسيما تبرعات التسليح والقتال، فالأمر حساس جداً وقد يسبب إحراجاً للدولة.
أفتى سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية بمنع التبرعات بدون إذن ولي الأمر وقال: يعتبر -أي جمع التبرعات- خروجا على طاعته، وقال: ينبغي التأدب مع الدولة وينبغي الاستئذان منها فهذه الأمور حساسة و يجب أن يكون ولي الأمر على بصيرة من أمرنا.
للأسف بعض الناس لما منعوا من جمع التبرعات بغير إذن ولي الأمر في السعودية لجؤوا إلى الكويت فوجدوا فيها تراخياً حيث الجمع يتم بطرق شتى حتى على أرقام حسابات شخصية وكأن الكويت (سوق حرة) يباع فيه ما لا يباع في غيره، وعلى الرغم من أن الحكومة أعلنت ان الجمع لا يكون الا عن طريق الدولة، فعلى هذا فالجمع بهذه الطريقة غلط كبير ولا أستثني أحداً حتى من أثق بهم شخصياً.
بعد فتوى سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله تعالى بالمنع من التبرعات أدلى بعض أصحاب المناهج المنحرفة بتصريحات سيئة للغاية منها قول أحدهم:
(تقولون منع التبرع؟! قلنا لكم الحل ربيع يعيد السلطة للشعب ليضع حكومته ويحاسبها ببرلمان وينزع الثقة منها إن حادت عن أهداف أمتنا ونصرتها اصحوا).
وقال آخر:
(دعاء القنوت بإذن ولي الأمر! نصرة إخوانك بإذن ولي الأمر! من المشرع الله أم ولي الأمر؟؟).
وقال ثالث:
(منع شعوب الأمة من نصرة إخوانهم المستضعفين في سورية ولو بالمال هو صد عن سبيل الله وخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين و إعانة للطغاة المجرمين. وقال: من يرى وجوب طاعة مخلوق في ترك نصرة المسلمين و إسلامهم لعدوهم مع القدرة على نصرتهم بالمال والنفس فقد اقتحم باب ردة باجماع الأمة).
والجدير بالذكر أن هؤلاء كلهم من طلاب الشيخ عبدالرحمن عبد الخالق وفقه الله للرجوع إلى الحق!!
وأخيراً أقول: أعلم ان كلامي هذا قد لا يرضي بعض الناس خصوصاً المغرمين بجمع التبرعات، ولا أستبعد أن بعضهم أو بعض أتباعهم كالعادة سيشنِّع علي ، ومن حق كل مخالف أن يرد رداً علمياً أتمنى أن يكون الرد من غير سبٍّ ولا شتم والله الهادي إلى سواء السبيل.
ملاحظة
لا يفوتني أن أشكر فضيلة الشيخ حاي بن سالم الحاي على ما تفضل به فأنصفني وأيَّد كلامي وشهد بالحق حول حقيقة وجود البيعة (سابقاً) عند مؤسسي جمعية إحياء التراث الاسلامي. فجزاه الله خير الجزاء وبارك الله فيه و أكرمه الله سعادة الدنيا والآخرة.
اللهم فرّج همَّ المهمومين و انصر عبادك المسلمين، أسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.