الرد الشافي على دكتور الشريعة (١)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، أما بعد:
فلقد استمعت إلى خطبة جمعة ألقاها أحد الخطباء وهو دكتور في كلية الشريعة بتاريخ 19 شوال 1428هـ الموافق 9/11/2007، فوجدت أن الخطيب المذكور قد غلط في مسائل كبيرة وخطيرة وينبني عليها فساد وضلال طبقة من الشباب المتحمس، فرأيت من الواجب عليَّ أن أتصدى له، فاجتهد في بيان ضعف مستواه وكشف حقيقته لكي لا يغتر به الناس من جهة، ولكف شره عن أولياء أمور الشباب الذي يعانون منه ومن أمثاله الذين يحرضون أولادهم عليهم باسم (الجهاد) المزعوم والذي أول من يتخلف عنه (الخطيب) نفسه.
موضوع الخطبة
بدأ الدكتور خطبته بتفسير مطلع سورة (الأنفال) وتعرض لمسائل في الجهاد سأتعرض لأخطرها بالرد العلمي وبالله أستعين وعليه التوكل وإليه أنيب. قال الخطيب الدكتورـ ألهمه الله رشده ووقاه شر نفسه: (يقول بعض السفهاء إن الجهاد من شروطه أن يستأذن ولي الأمرـ والله ـ ما قال بها إلا إبليس، ما نطق بهذه الكلمة إلا الشيطان لأن أهل العلم تكلموا في هذه المسألة فأشبعوها بحثاً وناقشوها بأدلة القرآن والسنة فقال الحنفية والحنابلة يجب أن يستأذن ولي الأمر وليس بشرط، هناك فرق بين الشرط والواجب، من جاهد دون إذن ولي الأمر فإن جهاده صحيح لكنه يأثم إذا نازع ولي الأمر هذا في جهاد الطلب) أ هــ
قلت: الله المستعان، هكذا أسلوب دكتور بالشريعة وعلى منبر يخطب الجمعة؟! لماذا كل هذا التشنج والهجوم السافر على من تخالفه؟ مفردات ومرادفات من الشتائم والسباب (السفهاء، ما قال بها إلا إبليس، ما نطق بهذه الكلمة إلا الشيطان) يكفي من الرد عليه قبح ألفاظه.
أين الأدلة من القرآن والسنة
أخي القارئ الكريم تأمل هذا الضعف عند الدكتور الخطيب يقول: (إن أهل العلم تكلموا في هذه المسألة يعني الجهاد من غير إذن ولي الأمر فأشبعوها بحثاً وناقشوها بأدلة القرآن والسنة فقال الحنفية والحنابلة)، أقول: ولم يذكر ولا دليلاً واحداً لا من الكتاب ولا من السنة!! واعلم أن الأدلة على خلاف ما ذهب إليه وإليك بعضاً منها:
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إذَا قًيلَ لَكُمُ انفرُواْ فًي سَبيلً اللّه اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْض) [التوبةـ38]، قال القرطبي رحمه الله تعالى (...إن الإمام إذا عين قوماً وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير فرضاً على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الإمام) أ هـ. وقال الشيخ العلامة الدكتور صالح آل فوزان ـ حفظه الله تعالى ـ (ومن ينظم القتال ويقوده؟ هو الإمام، فنحن نتبع الإمام فإن أمرنا بالغزو نغزو ولا نغزو بغير إذن الإمام فهذا لا يجوز لأنه من صلاحيات الإمام.... فإذا استنفر الإمام الناس للقتال وجب على كل من طاق حمل السلاح ولا يشترط في الإمام الذي يقيم الحج والجهاد أن يكون غير عاصي فقد يكون عنده بعض المعاصي والمخالفات لكن ما دام لم يخرج فيجب الجهاد والحج معه وصلاحه وقوته للمسلمين وفساده على نفسه أما الجهاد والحج ففي صالح المسلمين كذلك الصلاة فإن أصاب كنا معه وإن أخطأ فنتجنب إساءته لكن لا نخرج ونشق عصا الطاعة هذا مذهب أهل السنة والجماعة وعليه تقوم مصالح المسلمين) أ هـ [شرح العقيدة الطحاويةـ ص175].
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته وجهاد الصحابة رضي الله عنهم وفتوحات الإسلام والمسلمين كلها كانت بإذن أولياء الأمور وما كان الجهاد قط في تاريخ الإسلام والمسلمين بأفراد وعصابات هنا وهناك فالجهاد أكبر من ذلك.
وروى البخاري (2957) ومسلم (1841) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به فإن أمر بتقوى الله تعالى وعدل كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه" فهذا خبر بمعنى الأمر، أي اجعلوا الإمام جنة وقاتلوا من ورائه واتقوا به، وهذا كقوله (وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاس وَأَمْناً) [البقرةـ125] أي اجعلوه آمناً، فهذا نص في المسألة. قال النووي [شرح مسلم ـ 12/230]: (الإمام جنة: أي كالستر، لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس، ويخافون سطوته، ومعنى يقاتل من ورائه: أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم) أ هـ. وقال ابن حجر [فتح الباريـ 6/136]: لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويكف أذى بعضهم عن بعض، والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس. أ هــ
وروى البخاري (3606) ومسلم (1847) من حديث حذيفة أنه قال: (قلت يا رسول الله: فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك). ففي الحديث أن المسلم مأمور بالتزام جماعة المسلمين وإمامهم وألا يفارقهم، ولم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم عند وجود إمام أن يذهب بعض الأفراد للجهاد، ورحم الله الشيخ العلامة المحدث ناصر الدين الألباني كان يناظر جماعات التكفير والجهاد المزعوم بهذا الحديث فيعجز كبيرهم وصغيرهم أمامه.
قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
أخي القارئ وفقك الله لكل خير ووقاك شر الفتن، من القواعد المقررة عند أهل العلم أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجب تعليق أمر الجهاد بولي الأمر وإلا صار الأمر فوضى، ولتنازع الناس فيما بينهم بل لعل بعضهم يقتل بعضاً، فهذا لا يرى الجهاد مناسباً، والآخر يقاتله لتصوره أنه ينكر شرعيته وفضله، وآخرون يقاتلون طائفة مسلمة ابتداء لظنهم كفرهم، وآخرون يقتلون المعاهدين والمستأمنين، وآخرون ينتحرون ويقتلون بلا تمييز، وهكذا ستعم الفوضى إلى ما لا نهاية له بسبب إلغاء إذن ولي الأمر.
أقوال بعض علماء المذاهب الفقهية
زعم الدكتور الخطيب أن القول بشرطية استئذان ولي الأمر مخالف للأدلة من القرآن والسنة وقد تبين لك بطلان كلامه، والآن سأذكر لك أن من اشترط ذلك علماء وليسوا سفهاء كما يقول وليس من نطق بهذا إبليس ولا شيطان:
قال ابن قدامة الحنبلي في كتابه (المغني) [13/16]: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك". أ هــ
قال القرطبي المالكي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن) [5/275]: "ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسساً لهم عضداً من ورائهم وربما احتاجوا إلى درئه". أ هـ
وقال الحطاب كما في (مواهب الجليل) [3/349]: "مسألة: قال ابن عرفة الشيخ في الموازية: أيغزى بغير إذن الإمام؟ قال: أما الجيش والجمع فلا، إلا بإذن الإمام وتولية والي عليهم، ثم قال: قال ابن حبيب: سمعت أهل العلم يقولون: إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة حرمت مخالفته إلا أن يدهمهم العدو". أ هـ
وقال صاحب المحرر في الفقه (2/170): "ولا يجوز الغزو إلا بإذن الإمام إلا أن يفاجئهم عدو يخشى كَلَبه بالإذن فيسقط". أ هـ
وقال البهوتي في (كشف القناع) [3/41]: "وأمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده لأنه اعرف بحال الناس وبحال العدو ونكايتهم وقربهم وبعدهم ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك". أ هـ وقال أيضاً [3/72] في المصدر نفسه: "ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير لأنه اعرف بالحرب وأمره موكول إليه، ولأنه إن لم تجز المبارزة إلا بإذنه فالغزو أولى". أ هـ
وبهذا يتبين لك أخي القارئ الكريم بطلان ما زعمه الدكتور الخطيب بقوله (ما قال أحد من أهل العلم لا من السابقين ولا من المعاصرين العقلاء إن الجهاد من شروطه التي لا يصح إلا بها أن يستأذن ولي الأمر).
الفرق بين الشرط والواجب لا يعني معصية الرسول صلى الله عليه وسلم
اعلم أخي القارئ وفقني الله وإياك إلى الحق أن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بطاعته واتباعه وحرم علينا معصيته ومخالفة أمره، ثم العلماء تسهيلاً على طلبة العلم اصطلحوا اصطلاحات وحدوا حدوداً وتعاريف كالواجب والمستحب والحرام والحلال والمكروه وسموها الأحكام التكليفية، وكذلك ذكروا الشرط والسبب والمانع والصحة والفساد وسموها الأحكام الوضعية، وبحث هذه الاصطلاحات وأدلتها ومعانيها وصيغها مقررة في كتب أصول الفقه، والخلاصة انه يجب علينا طاعة الله ورسوله ويحرم علينا معصية الله ورسوله، وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر أن يقولوا يا رسول الله أمرك هذا واجب وليس بشرط
وإليك مثالين اثنين:
المثال الأول: روى البخاري كتاب الحج والسير باب كتابة الإمام الناس (3061) وروى مسلم في صحيحه كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (1341) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا وكذا وامرأتي حاجة قال: (ارجع فحج مع امرأتك). فتأمل أخي القارئ العزيز لم يقل الرجل يا رسول الله هل المحرم شرط أم واجب ولم يقل كما يقول الدكتور الخطيب لو جاهدت جهادي صحيح لكنه مع الإثم.
المثال الثاني: روى أبو داود في سننه كتاب الجهاد باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان (2530) وصححه الألباني في صحيح السنن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن، فقال: (هل لك أحد باليمن)؟ قال: أبواي، قال:( أذنا لك)؟قال: لا، قال: (ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما). هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأمره وتوصيته، أما الدكتور الخطيب عفا الله عنه فيقول بالحرف الواحد: (من خرج للجهاد بلا إذن الوالدين فجهاده صحيح لكنه يأثم لأنه فرط في الواجب) سبحان الله أين أنت من قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ) [الحجرات1] ومن قوله (إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمنينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّه وَرَسُوله ليَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئكَ هُمُ الْمُفْلحُونَ) [النورـ51]، الله أكبر كم من دماء سفكت، وكم من ضحية ذهبت، وكم من ثكلى بكت، وكم من أرملة اعتدت، وكم من صبية ضاعت، بسبب هذه المناهج والخطب المخالفة والمحاداة لله ورسوله.
بر الوالدين أفضل من الجهاد في سبيل الله
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: اقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى قال: (فهل لك من والديك أحد حي)؟ قال: نعم، بل كلاهما، قال:(فتبتغي الأجر من الله تعالى)، قال: نعم، قال:(فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما) [متفق عليه] واللفظ لمسلم. وفي رواية لهما جاء رجل فاستأذنه في الجهاد، فقال: (أحي والداك) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد). أقول: هذا جهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك فيه ولا لبس فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين عليه أما إذا كان الجهاد مشكوكاً فيه كالجهاد المزعوم اليوم فكيف يقدم على بر الوالدين؟! وأين الدكتور الخطيب من حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري (527) ومسلم (85) وفيه سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: (الصلاة في وقتها)، قال: ثم أي؟ قال: (ثم بر الوالدين)، قال: ثم أي؟ قال:(الجهاد في سبيل الله) قال: حدثني بهن ولو استزدته لزادني. أقول: فهل بعد هذا الوضوح وضوح؟!
أخي القارئ الكريم تابع معي في مقال قادم إن شاء الله تعالى في الرد الــ (شافي) على (دكتور) الشريعة والله اسأل أن يهدي الدكتور الخطيب ويرده إلى صوابه ويحفظ شبابنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله أولا وآخر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.