اللهم تقبل والدتي مريم بنت أحمد كما تقبلت مريم بنت عمران
الحمد لله الحي القيوم، الذي لا يموت، الذي خلق الجنَّ والانسَ وليس منهم من أحدٍ من الموت يفوت، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقد حبب الله اليَّ اسم «مريم»، وأول «مريم» عرفتها في حياتي والدتي «مريم بنت أحمد بن صالح النهام» التي توفيت الأسبوع الماضي فجر يوم الأربعاء 10 من ذي القعدة لعام 1433هـ الموافق 2012/9/26م، رحمها الله تعالى وجعل الجنَّة مأواها، وجزاها الله عني وعن والدي وعن اخوتي وأحفادها وأسباطها خير الجزاء، فكانت بحقٍ نعمت الزوجة لزوجها، ونعمت الأم لأولادها ونعمت الجدّة لأحفادها، لا يمكن ان أستوفيها حقها ولو كتبت عنها مقالاً بل ومقالات، ولا كراسة بل ولا كراسات.
لقد توفيت والدتها في صغرها وهي طفلة لا تذكرها فتزوج والدها -رحمه الله تعالى- زوجة واسمها أيضاً «مريم» -رحمها الله تعالى- فربتها وأحسنت تربيتها وشاركت في تربيتها أختها الكبرى واسمها «أمينة»، رحمها الله تعالى، فلما بلغت الثالثة عشرة تزوجها والدي -رحمه الله تعالى- فأنجبت له بنات وبنينَ وقامت بخدمة زوجها وأولادها وأحسنت تربيتهم وتعليمهم على الرغم من أنها أميَّة لا تكتب ولا تحسب، لكن قد آتاها الله تعالى من فضله ذكاءً مميزاً وذاكرةً حديدية، فقلما تنسى شيئاً، وكانت تستحضر أموراً قد مضى عليها عشرات السنين، وكانت طليقة في الكلام لا تتلعثم، فصيحةً في اختيار مفردات كلامها.
حرصت على تعليم أولادها فتخرج جميع أولادها من الجامعات وكنت أضعف أولادها في مستواي الدراسي، ولولا الله تعالى ثمَّ والدتي «مريم» ما تخرجت ولا أتممت دراستي، فهي لا تقبل ان يتغيّب أحدٌ من أولادها عن دراسته أبداً، وكان والدها -رحمه الله تعالى- متديناً على طريقة العوام، لذا رضعت التدين من صغرها وأثرت في أولادها، فأمرتني بالصلاة منذ السابعة من عمري، وصمتُ أولَ رمضانٍ لما كنت في الصف الثاني الابتدائي، ولم تكن آنذاك صحوة ولا دعوة الا الشيء اليسير، لكنها والدتي التي كانت تحثني واخواني وأخواتي على كل خير، جزاها الله كل خير.
كانت والدتي رحمها الله تعالى تحمل في قلبها عقيدة الفطرة السليمة، بعيدةً عن الخرافات، كثيرة التوكل على الله، وثقتها بالله كبيرة، تسمع منها كلمات من وحي القرآن مثل: قدّر الله، وكتب الله، والله ما كتب، وتكثر من قولتها المشهورة (اسجد واطلب ربك)، وكانت تُكثر من ذكر الله ومن الاستغفار وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويُعْجِبُها الخُلقُ الحسن والأدب وتدعو اليه وتحرص على الصلة وتأمر بها، وكانت كثيرة الصبر على البلاء وتحتسب الأجر والثواب، وكانت تتمنى لو تجيد قراءة القرآن -لا حرمها الله أجر أمنيتها- لكنها كانت تستمع القرآن كثيراً جداً، فإذاعة القرآن الكريم هي اذاعتها المفضلة.
تحافظ على صلاتها وسننها وكثيرة الصيام فتصوم أكثر الصيام المشروع الا صوم داود عليه السلام، وكانت زاهدةً في الدنيا لاسيما بعد وفاة ابنها الأكبر «أحمد» -رحمه الله تعالى- قبل أكثر من ثلاثين سنة، فكانت لا تحب الذهاب الى الأسواق ولا الى الأفراح والأعراس وتكره التبرج والسفور ولا ترغب في السفر للسياحة بتاتاً. بَنَتْ مَسْجِدين وحجّت الى بيت الله مرتين واعتمرت مراراً، وكانت تتصدق كثيراً، وتكفل الأيتام ومنذ سنوات تكفلت بالانفاق على أرملة في اليمن واسمها «مريم» أيضاً وبناتها اليتيمات الأربع.
كانت والدتي -رحمها الله تعالى- تحب العطاء أكثر بكثير من الأخذ، الى درجة أنني كنت أتضايق منها أحياناً فلا تتيح لي فرصة لأعطيها شيئاً من المال الا نادراً، واذا أخذت مني أو من غيري شيئاً من المال احتفظت به حتى اذا صارت مناسبة لأحد أبنائنا أو بناتنا من زواج أو ولادة أو تخرج ردّت ما أخذته وزيادة، لا اله الا الله ما أعظمها من أمٍ حنونةٍ، رحمها الله تعالى.
عذراً أخي القارئ وأختي القارئة لقد أغرقت الدموع عينيي فلم أعد أستطيع مواصلة الكتابة، لكن أنقل لكم كلمات كتبها أخي وشقيقي وحبيبي المفضال/ أبو عبدالله عبدالرحمن بن سعد الطويل قال فيها:
"أمي الحبيبة...مربية هي بمعنى الكلمة، متدينة وصاحبة التزام بالطاعات والعبادات، كريمة معطاءة، حنونة وحبيبة وتختلج روح الجموع من المحارم والأقارب بشكل طبيعي غير متكلف، صاحبة برٍّ وصلة وتواصل، بارّة و تتعبد الله بالصبر على تكاليف الدنيا وعوارضها، قلبها كبير يسع الجميع وكل له حصته الوافرة وكأنه ليس هنالك غيره، الشهادات تتوالى وتتطابق من كل من له صلة بها على كل ما قلت وما لم اقل، فهو كثير وأقسم أني فخور بها وهي نعمة أهداها لي خالقي. أسأل الله ان يتغمد أمي مريم أحمد صالح النهام برحمته الواسعة ويجعلها في منازل العليين، اللهم آمين. ولدها: عبدالرحمن الطويل- اللهم وارزقنا رضى والدينا عنا وارزقنا برَّهم أمواتا" انتهى كلامه.
لقد أحببت اسم «مريم» لأنه اسم والدتي وعليه سميت أول بنت رزقني الله اياها «مريم» واذا قرأت قوله تعالى عن مريم عليها السلام {وَانِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} [آل عمران: 36]، وقوله {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37]، رجوت الله تعالى ان يتقبل والدتي «مريم» بقبولٍ حسن، فاللهم اغفر لها وارحمها وعافها واعف عنها، وأكرم نُزُلها ووسِّع مُدْخلها، واغسلها بالماء والثلج والبَرَدْ، ونَقها من الذنوب والخطايا كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم واجعل ما أصابها من البلاء والمرض رفعة لها في الدرجات العُلا واجمعنا و إياها في جنات النعيم. ولعلي أسطِّر في هذا المقال شكري وتقديري لاخواتي اللاتي أبلين بلاء حسناً في برِّهن لوالدتنا في نشاطها ومرضها فجزاهن الله خير الجزاء، ولا يفوتني ان أشكر كل من شاركنا في عزائنا فجزاهم الله عنا خيراً، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.