نعم أيها الكاتب المبطل: أهل الجنة يرون الله تعالى بأعينهم يوم القيامة (٣)
الرد على «علي المتروك»
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فهذه الحلقة الثَّالثة في الردِّ على الكاتب المبطل الذي زعم بأن الله لا يُرى، وذلك في مقال له نشره في جريدة «الوطن» بعنوان (هل يمكن رؤية الله يوم القيامة؟) فأقول وبالله أستعين وعليه أتوكل وإليه أنيب:
قال الكاتب المبطل: «هكذا الدعوة عندما تكون لله.... فكيف إذا كان الحوار بين المسلمين أنفسهم عندما يختلفون في إثبات رأي أو نفيه» انتهى كلامه.
فأقول: مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة مسألةٌ عقديةٌ كبيرةٌ يتوقف عليها إيمانٌ أو كفرٌ، فمن آمنَ بكتاب الله -القرآن الكريم والذكر الحكيم- الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾- ومن آمنَ بسّنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم -الوحي المبين من رب العالمين- فلا يمكن أنْ يُنكر رؤيةَ الله تعالى يوم القيامة؛ فنصوصُ القرآن والسُّنة متواترةٌ مشهورةٌ، وتفاسيرُ الصحابة والتابعين ثابتة في بطونِ كتب المسلمين منثورة، وخلاف أهل السُّنة والجماعة مع أهل البدع والأهواء ليس اختلافاً في إثبات رأي أو نفيه، كما يزعم الكاتب المبطل. وأهل السُّنة لا يتساهلون مع أهل الأهواء، ولا يداهنون في دينهم، ولا يجاملون على حساب عقيدتهم، بينما تجد أهلَ البدعِ دائماً يقلِّلون من شأن الخلاف مع أهل السُّنة، ويزعمون إنما هو مجرد اختلاف في وجهات النظر، هذا في النور والضياء، لكن في الظلام والخفاء؛ الله وحده يعلم ما يحملونه في قلوبهم على أهل السُّنة!!
وتابع معي أخي القارئ الكريم ماذا يقول الكاتب المبطل: «فإن مرجع المسلمين كما أمرهم نبيهم -صلوات الله عليه وآله- هو الرجوع إلى كتاب الله العزيز» انتهى كلامه.
فأقول: سبحان الله! وهل رجع الكاتب إلى كتاب الله العظيم؟
والله عجيب أمر أهل البدع والأهواء؛ فهم لا يقيمون للقرآن وزناً، إذا جاؤوا إلى آيات الذكر الحكيم قدموا عليها عقولهم السقيمة وفلسفة إبليس وجنده، فزعموا أن هذا لا يليق بالله، وهذا يوهمُ التشبيهَ والتمثيلَ، فما زالوا في طنطنة وفلسفة حتى حملوا على القرآن حملةً شرسةً، فحرّفوا الكَلِمَ عن مواضعه، وفسروه بأهوائهم وأخرجوه عن مراد الله تعالى به، وسمّوا فعلهم هذا «تأويلاً»، ليكون تبريراً لتحريفاتهم الباطلة.
أخي القارئ الكريم استمر معي في القراءة لترى العجب العجاب في كلام هذا الكاتب المبطل.
قال الكاتب المبطل: «وفي خضم ما جاء في كتب التراث وما تضمنته بعضها من أحاديث لا تنسجم مع العقل والمنطق القرآني بل أحاديث مغرقة بالخيال...». ثم ذكر أمثلة على ذلك إلى أن قال: «وهي موثقة ونقلتها كتب التراث المعتبرة...» إلى أن قال: «ويبدو أن بعض المتربصين بالإسلام دسَّ هذه الأحاديث لتكون جزءاً من التراث الإسلامي» انتهى كلامه.
فأقول: ليس في كتب أهل السُّنة أحاديثَ صحيحة مستقيمة الأسانيد سليمة من الشذوذ مقبولة لا تنسجم مع العقل والمنطق القرآني، كما زعم الكاتب، فالعلماءُ الذين هم ورثةُ الأنبياء قد وفقهم الله تعالى فبيّنوا الصحيحَ من السَّقيمِ، وصفّوا ونقّوا السُّنة النبوية بتوفيق الله لهم، فالله حافظٌ لدينه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾ [الحجر]، وكما حفظ الله القرآنَ كذلك حفظ الله سنةَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لا كما يظن المبطلون، فلقد قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة]، فمن ظنَّ بأنَّ الله تعالى تكفَّلَ بحفظِ القُرآن دونَ السُّنةِ فقد ظنَّ بالله ظنَّ السّوء، و﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)﴾ [ص]. لأنَّ دينَ الله تعالى الذي أكمله لعباده وأتمَّ عليهم به النعمة، ورضيه لهم ديناً؛ إنما هو في الكتاب والسُّنة وليس في الكتاب فحسب، وسيبقى دينُ الله محفوظاً بحفظ الله له، مصوناً بما سخّر الله له من علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قبيل قيام الساعة. وكل مَنْ دسَّ فيه ما ليس منه محاولاً إخفاء الحق، فسَيُظْهِر الله أمرَه، وسيميزَ اللهُ الحقَ من الباطلِ، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾ [الصف].
والأحاديث الصحيحة المتواترة في إثبات رؤية الله تعالى يوم القيامة حقٌ لا ريبَ فيه، وليست من الخيال ولا تخالف القرآن، كما أشار إلى ذلك الكاتب المبطل.
والعجيب في أمر هذا الكاتب أنه قال: «ويبدو أن بعض المتربصين بالإسلام دسَّ هذه الأحاديث لتكون جزءاً من التراث الإسلامي»، ثم بعد كلامه هذا مباشرة استدلَّ بحديثٍ مكذوبٍ موضوعٍ مدسوسٍ؛ فقال: «فقد ورد عنه -أي النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ستكثر الكذابة من بعدي، فإذا جاءكم الحديث عني فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فخذوا به، وإن خالف فاضربوه عرض الحائط» انتهى كلامه.
أقول: لقد ذكر الكاتب المبطل في مقاله أكثرَ من ثلاثين آية، وغالباً يذكر تخريج كل آية، فيذكر اسم السورة ورقم الآية، ولو لم يفعل ذلك لما ضرّه شيءٌ، فالآيات معلومة معروفة، وذكر أيضاً بعض النقولات لبعض المفسرين والمتكلمين وذكر المرجع ورقم الصفحة، بينما لما ذكر هذا الحديثَ المكذوبَ «ستكثر الكذابة من بعدي، فإذا جاءكم الحديث عني...» إلخ، لم يذكر مَنْ رواه، ولا من أيِّ مرجعٍ استقاه، أتدري لماذا أيها القارئ الكريم؟
سأجيبك: لأنّه حديثٌ موضوعٌ مكذوبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني «حديث باطل لا سند له، ولم يرد في كتاب معتمد»، وإنما هو مِنْ وَضْعِ بعضِ الزنادقة الذين أرادوا إبطال سُنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكل الأحاديث التي جاءت في عرض الأحاديث على القرآن لم يَثْبُت منها شيءٌ؛ فهي إما موضوعةٌ مكذوبةٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أسانيدها منكرةٌ مظلمةٌ.
وأعجب ما في هذا الحديث المكذوب أنَّ واضعه الكذاب الأشر في بداية كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكثر الكذابة من بعدي»!! وهو أحد الكذابة، هذا أولاً.
ثانياً: قال: «فإذا جاءكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله»، فلنبدأ بهذا الحديث نفسه، فلو عرضناه على كتاب الله لوجدناه مخالفاً لكتاب الله؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: 7]، ولم يأمرنا أن نعرضَ الحديثَ على القرآنِ قبل الأخذِ به.
ثالثاً: يقول: «فإن وافق فخذوا به»، وأحاديث الرؤية توافق القرآن تماماً، فلماذا الكاتب لم يأخذ بها؟!
رابعاً: يقول: «وإن خالف»، وهذا كذبٌ؛ إذ لا يمكن للحديث أنْ يخالف القرآن إلا أن يكون ليس حديثاً أصلاً، أو من الأحاديث التي لا تصح، ولا تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ الحديث وحيٌ من الله تعالى كما قال جلَّ وعلا: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ [النجم]، ويقول جلَّ وعلا: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)﴾ [النساء]، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: «ألا إنِّي أُوتِيتُ الكِتابَ ومِثْلَهُ مَعَهُ، ألا إنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ ومِثْلَهُ مَعَهُ،....» [رواه المقدام بن معدي كرب الكندي، «مسند أحمد بن حنبل» -مسند الشاميين- حديث: (16866)، و «الشريعة» للآجري -باب التحذير من طوائف يعارضون سنن النبي صلى الله عليه وسلم- حديث: (95) بتكرار جملة: «ألا إنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ ومِثْلَهُ مَعَهُ»].
خامساً: يقول: «فاضربوه عرض الحائط»، أقول: والذي نفسي بيده الأولى أن يُضرب بعرض الحائط حديث هذا المكذوب لا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الكاتب المبطل: «وبما أننا بصدد الكلام عن عدم رؤية الله في يوم القيامة، فليس جديداً، وإنما كان رأياً قديماً، بل كان هو الرأي السائد في الصدر الأول من الصحابة والتابعين إلى أوائل القرن الثاني عندما تولى المعتزلة الحكم، ابتداء من عهد المأمون وهو رأي الشيعة أيضاً، ولم يتغير هذا الرأي إلا بعد ما سيطر أهل الحديث على الحكم العباسي -أيام المتوكل- وأقصيت المعتزلة، ونُكِّل بهم أشد التنكيل، وكانت نقطة صراع يتبين منها الموالي للحكم العباسي والخارج عليه مثلها مثل فتنة الإمام أحمد في (خلق القرآن)» انتهى كلامه.
قلت: كلامُ الكاتب اشتمل على حقٍّ وباطلٍ، وصدقٍ وكذبٍ، وهذا شرٌ من لو كان كلامه كله باطلاً محضاً، لأنَّ الباطل إذا اشتمل على شيءٍ من الحق يصير متلبساً على الناس، وإنما يفعل ذلك من أراد أن يروّج الباطلّ لذا قال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)﴾ [البقرة].
ولبيان ذلك أقول: لقد كذب الكاتب حينما قرَّر بأنَّ القول بعدم رؤية الله يوم القيامة ليس جديداً، وإنما كان رأياً قديماً، بل كان هو الرأي السائد في الصدر الأول من الصحابة والتابعين، والحق الذي لا ريب فيه أنَّ الصدر الأول لم يُؤْثر فيه عن أحدٍ منهم أنّه أنكرَ رؤية الله تعالى يوم القيامة، ولم يُؤْثر عن أحدٍ معتبرٍ قطٍّ أنّه قال بعدم رؤية الله تعالى يوم القيامة، ولو وَجَدَ من قال بهذا القول الباطل لكان أول من يورد قوله هذا الكاتب المبطل، لكن أنَّى له ذلك، إذْ لا سبيل له إلى الصدر الأول ليجد واحداً من الصحابة أو التابعين أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة، فالأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغت حدَّ التواتر، وتفاسير الصحابة والتابعين لآيات القرآن مشهورة، لا يُنكر ذلك إلا أحدَ رجلين: إما جاهلٌ، أو مبطلٌ، لذا لا يخلو كتابٌ في عقيدة السَّلف، ولا تفسيرٌ مأثورٌ معتبرٌ إلا وذكر فيه مسألة رؤية الله تعالى على أنها من المسائل العقدية المُسَلَّمِ بها، والمُجْمَعِ عليها، ثمَّ القولُ برؤية الله يوم القيامة مسألةٌ عظيمةٌ من مسائل الاعتقاد، وليست رأياً فقهياً رآه فلان أو فلان -كما قد يصوره الكاتب-، ولقد وقع خلاف يسير في مسألة هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا بعين رأسه أو لا؟ والحق أنه لم يرَ ربه في الدنيا، أما أن يُقال اختلف الصحابة أو التابعون في رؤية الله تعالى يوم القيامة، فهذا والذي نفسي بيده من الكذب والباطل الصريح.
وإنما حدث بعد العصر الأول الخلافُ في رؤية الله يوم القيامة، والذين خالفوا في ذلك المعتزلة والشيعة والإباضية وغيرهم، نعم خالفوا عقيدة الكتاب والسُّنة؛ فزعموا أنَّ الله تعالى لا يُرى يوم القيامة، وحرّفوا الآيات الدالة على أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وأنكروا تفسير الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بل وأنكروا تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، كما أنكروا الأحاديث المتواترة التي في الصحيحين وغيرهما.
أخي القارئ الكريم لم ينته الرد على الكاتب المبطل وتابعني في المقال القادم إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.