الفنان التائب والفنانة التائبة!!
الحمد لله الحيي السِّتِّير، والصلاة والسلام على المبعوث بالتيسير، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن الله تعالى سِتِّير يحب الستر وأمر به، ورغّب فيه، قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)) [النور- 19]، وقال تعالى (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)) [النساء- 148]، وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم[2590] من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يستر عبدٌ عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة" ولمسلم [2699] أيضاً "ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة". و أولى بالمسلم أن يستر نفسه، ولا يحدث بما فعل واقترف من الذنوب والآثام ولو تاب منها؛ لأن ليس في النصوص والأدلة ما يستثني التائبَ دون غيره. وتأمل هذا الحديث العجيب الذي هو نص فيما أذكره لك، عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك، فافعل ما شئت، فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ثم قال: "رده عليّ " فردوه عليه فقرأ عليه (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)) [هود]، فقيل يا رسول الله أَلَهُ وحده أم للناس كافة؟ قال:" بل للناس كافة" [صحيح رواه أحمد في المسند (1/449) وأصله في البخاري (526) ومسلم (2763) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه].
تدبر أخي القارئ الكريم، وفقني الله وإياك كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمرَ بنَ الخطاب- رضي الله عنه- لما قال:"لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه" ولم يقل دعه يا عمر فإنه قد جاء تائباً نادماً!! ومن المعلوم والمقرر أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم شرعٌ ودينٌ، فصار الحق الذي لا ريب فيه أن من وقع في معصية وجب عليه أن يستر على نفسه لا أن يأتي إلى محاضرة عامة يقول للناس كنت أفعل وأفعل ثم منَّ الله تعالى عليَّ بالتوبة، بل بلغ ببعض الناس أن يجري مقابلة مع بعض المدمنين عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وليقص على الناس تاريخه المظلم الذي أسرف فيه على نفسه، ويقول كنت أفعل وأفعل. لا إله إلا الله!! أرأيت كيف عبث الشيطان بهؤلاء حتى جعلهم يفضحون أنفسهم وبالصوت والصورة، والاسم وقد سترهم الله تعالى!!. أخرج البخاري [6069]ومسلم[2990] في صحيحيهما من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كل أمتي معافى إلا المجاهرون، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكف ستر الله عنه".
وهذا أيضاً صحيح وصريح يدل على تحريم هتك ستر الله الذي ستر به على عبده ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا تاب فليقل كنت أفعل كذا وكذا.
أخي القارئ، حفظك الله من كل سوء، انظر تناقض هؤلاء كيف أطلقوا على أنفسهم ورضوا أن يطلق عليهم الآخرون هذا اللقب المتناقض (الفنان التائب) (الفنانة التائبة) (المدمن التائب)، ونحوها من الألقاب التي ما أنزل الله بها من سلطان، فإن كلمة تائب تدل على أنه ترك المعصية وأقلع عنها، وأما كلمة "فنان" و"فنانة" و"مدمن" تدل على أنه عاصٍ ومسرف على نفسه ومنغمس بالإثم، وكأنه يقول "العاصي سابقاً التائب"، إذاً بما أنه تائب لما يسمى " فنان وفنانة ومدمن"؟! أليس من شروط التوبة الندمُ؟! وهل التائب النادم يتمسك باسمه الفني، وينشر هنا وهناك حتى في المساجد والطرقات، وكأنه يفتخر بما كان عليه؟ نعم هل سأل نفسه ذلك التائب لماذا يتمسك بذلك اللقب والوصف والاسم الفني؟ أليس الباطل يذهب بتركه ونسيانه لا بذكره وإحيائه؟ إذا كان تائباً حقاً، فأولى به أن يكره ذلك الماضي، ويسأل اللهَ تعالى أن يستر عليه، ويسعى بالستر على نفسه، بل الواجب عليه أن يرفض أن يذكِّره أحد بماضيه ومعاصيه ولأن هذا من التنابز بالألقاب الذي نهى عنه الله تعالى بقوله (ولا تنابزوا بالألقاب) [الحجرات- 11[ بل أسوء من ذلك أن تُعرَض له عبر شاشات التلفاز بعضُ اللقطات السابقة وهو يغني أو يمثل .
أخي القارئ العزيز، اعلم رحمني الله وإياك أن العتب الأكبر ليس على ذلك "التائب" أو "التائبة" المساكين، وإنما على أولئك الذين يصدرونه ويستضيفونه في ندوات ومحاضرات هنا وهناك؛ ليقصّ لهم عن تاريخه وماضيه وآثامه ومعاصيه!! أليس فيهم رجل رشيد؟! ألا يتقون الله تعالى في هؤلاء ويسترون عليهم بدلًا من فضيحتهم أمام الناس، ماذا سيقول الناس على "امرأة تائبة" تقول عن نفسها فعلت وفعلت، وماذا سيتوقعون منها لما كانت تسافر من غير محرم لإحياء سهرات غنائية مع الرجال؟ أليس من الغش لهذه التائبة أن يبرزوها للناس لتفضح نفسها؟! ألا تتقين الله أيتها الداعيات في اللجان النسائية ؟ أليس وراءكن رجال في جمعياتكن يوقفوكن عند حدودكن من هذه التصرفات؟ نعم قد يقول قائل لقد قسوت عليهن، فأقول الأمر يناسبه شيء من الصراحة؛ لعلهم يرجعون إلى رشدهم، فقد بلغ ببعض المسرفين أن أتى بعباد "الشيطان" و"السحرة" و"الشاذِّين" إلى حلقات إعلامية لإثارة برنامجه تحت ستار "التائبين" فلا شك هذا فساد وانحراف عقائدي ومنهجي، وإني أشعر بالمسؤولية، لذا أنبه الناس على سوء تصرفات هؤلاء، والذين ينتسبون إلى الدعوة والدين والإصلاح، وهم أولى بأن يصلحوا أنفسهم ودعوتهم ومنهجهم قبل إصلاح الآخرين.
أخي القارئ، وفقني الله وإياك إلى الحق والاستقامة، لم تنته المفاسد إلى ما ذكرت لك بل تتجاوز إلى الآتي:
قد يأتي من يعيّر ذلك التائب بماضيه، فيقول أنت الذي كنت تفعل كذا وكذا واليوم تقول إنك تائب؟
قد يشك بعض الناس بتوبة التائب فيبقى حَذِراً منه.
قد يقول قائل أخشى أن يرجع هذا التائب إلى ماضيه الذي تَعَوَّد عليه، وإن كان حالياً تائباً ، خصوصاً وأن هناك من رجع فعلاً، فبعض المدمنين تاب من الإدمان وحسنت توبته ثم ما لبث قليلاً أن رجع إلى إدمانه وهذا معلوم ولا يخفى.
ومن الناس من يتحاشى صاحب السوابق وإن تاب، فيفضَّل أن يصادق أو يصاهر أو يجاور أو يشارك من لا ماضي له.
قد يطلب بعض العصاة الشهرة في التوبة إذا رأى فلاناً أو فلانة قد اشتهر في التوبة أكثر من شهرته أيام معاصيه، وهذا معلوم أيضِاً، فبعض التائبين ما كان مشهوراً أيام أضواء الغناء والتمثيل كما حصل له بعد التوبة.
قد يُصَدَّر ذلك التائبُ في المحاضرات والندوات، وهو لا يحسن الكلام، ولا يعرف الوعظ ولا يعرف ما يقال وما لا يقال؛ لأنه ما تعلم، فكيف يُعَلِّم؟!ومن المقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه.
إنه أسلوب للدعوة مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما علم من تاريخ الإسلام أن يلقب العاصي بمعاصيه، ويصدر للناس؛ ليسرد ماضيه المظلم وإسرافه على نفسه.
أخي القارئ الكريم، وفقني الله تعالى وإياك للعلم النافع والعمل الصالح، لا يغرنك من يقول حتى يعتبر الآخرون وحتى يتوب العصاة، فأقول خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمواعظ والنصائح غنية عن هذه الطرق المحدثة، فكم من تائب تاب من غير هذه الطرق ثم إن كان للاعتبار فيمكن أن يقال كان فلان من الناس- من غير ذكر اسمه- يفعل كذا وكذا وجرى عليه كذا وكذا، فيحصل المقصود ومن غير هتكٍ للأستار. واللهَ أسأل أن يستر عيوبنا وعوراتنا وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.