من خرج للجهاد بغير إذن والديه يكون عاصياً
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد سُئل سماحة الشيخ العلامة المفتي الدكتور صالح بن فوزان آل فوزان حفظه الله تعالى السؤال التالي:
ما حكم الذهاب إلى الجهاد دون إذن ولي الأمر، مع أنه يُغفر للمجاهد من أول قطرة من دمه؟ وهل يكون شهيداً؟
الجواب: لا يكون مجاهداً بل يكون عاصياً. انتهى جوابه من كتاب «الإجابات المهمة في المشاكل الملمة» (1/ 53).
جزى الله الشيخ العلامة صالح الفوزان خيراً، فقد كفانا بجوابه الصريح على هذا السؤال الذي تتكرر الحاجة إلى الجواب عنه بين الحين والآخر، وتمنيت لو أن طلبة العلم أحالوا الشباب إلى العلماء للإجابة عن الأسئلة المصيرية الكبيرة المهمة بدلاً من أن يجتهد كل منهم فيفتي برأيه جواباً سريعاً عابراً أمام الشباب الصغار وأمام العامة، ثمَّ ينتشر الجواب وتترتب عليه أمور كثيرة خطيرة.
و أقول: قبل أيام انتشر مقطع مصوَّر لأحد طلبة العلم سُئل فيه عن الجهاد في سورية فأجاب المسؤولَ بجواب أقل ما يقال فيه إنه غير موفق، وذلك لمخالفته الصريحة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري (5972) ومسلم (2549) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد؟ فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد». وقد بوَّب البخاري -رحمه الله- على هذا الحديث في كتاب الأدب من صحيحه فقال: باب (لا يجاهد إلا بإذن الأبوين)، فكيف بعد هذا الحديث الصحيح الصريح يقال: إن الذهاب إلى الجهاد من غير إذن الوالدين معصية لا تفسد الجهاد؟!
إن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم جهاد على الإطلاق فهو جهاد مستكمل الشروط والأركان ليس فيه شكٌ ولا شبهة، فلا يُظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يفوِّت هذا الخير العظيم على أحد أصحابه فيأمره أن يترك الجهاد معه ليذهب إلى والديه، بل ولا نظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاته أن يقول للرجل (لو لم تستأذن والديك فهذه معصية ولا تفسد عليك جهادك ولعل الله يغفر لك بجهادك)، لذا أرجو من الله تعالى أن يوفق طلبة العلم إلى التريث والتثبت قبل المجازفة بإصدار الأحكام الشرعية لا سيما في تلك المسائل العظيمة. وإني والله ما زلت أحسن الظن بإخواني طلبة العلم المشهود لهم بالخير، لكن لعل الخُلطة مع بعض الناس أثرت كثيراً في طرحهم لبعض المسائل وهذا مُلاحظ عليهم في الآونة الأخيرة؛ كمخالطتهم لذلك الداعي إلى الفتنة والمفتون بجمع التبرعات والمشهور بذلك، الذي يقرر بين الحين والآخر أن الجهاد لا يُشترط له استئذان ولي الأمر ولا إذن الوالدين، وقد سبق أن رددت عليه -والحمد لله- لكن صاحبنا يقول بالحرف الواحد: «يشترط أن يستأذن والديه ويستأذن ولي الأمر حتى يذهب ويقاتل لكن لو لم يستأذن، هذه معصية ولا تفسد عليه جهاده، ولعل الله يغفر له بجهاده هذه المعصية» انتهى كلامه.
أقول: هذا الكلام غريب جداً ولا أدري كيف يقرر بأن الاستئذان «شرط»، والشرط ما يلزم من عدمه العدم، ثم يقول جهاده لا يفسد؟! فهذا القول تماماً كقول من قال تشرط الطهارة للصلاة لكن لو لم يتطهر فهذه معصية ولا تفسد عليه صلاته!! بل نقول إن النبي صلى الله عليه وسلم كما أمر المسيء في صلاته أن يرجع ويعيد صلاته، كذلك أمر من خرج للجهاد بغير إذن والديه أن يرجع إليهما كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «إن رجلاً هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي. قال: آذنا لك؟ قال: لا. قال: ارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرّهما» [رواه أحمد (3/ 76)، وأبو داود (2530) كتاب الجهاد باب في الرجل يغزو وأبواه كارهان]. فهذا الرجل جاء من اليمن مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد في سبيل الله تعالى فأمره بالرجوع إلى والديه، والحديث نصّ في هذه المسألة، وأخشى على من أفتى بخلافه أن يكون قد حادَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول أيضاً: لا شك أنَّ برَّ الوالدين مقدمٌ على الجهاد في سبيل الله كما دلَّ على ذلك حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- الذي رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة (حديث: 513)، عن أبي عمرو الشيباني ، يقول: حدثنا صاحب- هذه الدار وأشار إلى دار- عبد الله، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها»، قال: ثم أي؟ قال: «ثم بر الوالدين» قال: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني.
وأيضاً الخروج للجهاد من غير إذن الوالدين فيه عقوق؛ والعقوق من أكبر الكبائر، كما في صحيح البخاري- كتاب الشهادات (حديث: 2532)، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين -وجلس وكان متكئاً فقال- ألا وقول الزور»، قال: فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت». فإذا كان الشهيد يُغفر له مع أول قطرة دم، فهذا يعني به الذنوب التي بينه وبين ربه، وليس المقصود بذلك الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، لذا الشهيد لا يغفر له الدَّين، كما في صحيح مسلم- كتاب الإمارة (حديث: 3589)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين». قال النووي رحمه الله تعالى: «هذه الفضيلة العظيمة للمجاهد وهي تكفير خطاياه كلها إلا حقوق الآدميين» (شرح مسلم 13/ 29)، وقال أيضاً: «قوله صلى الله عليه وسلم (إلا الدَّين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البرِّ لا يكفر حقوق الآدميين وإنما يكفر حقوق الله تعالى» [شرح مسلم (13/ 29)].
فالواجب علينا لا سيما ونحن في زمن كثر فيه العقوق أن نحث الشباب على البرِّ واجتناب العقوق لا أن نقول لهم لو ذهبتم فقد عصيتم، ولعل الله يغفر لكم عقوقكم بفضل جهادكم، فلا يخفى على كل من تدبر هذا الجواب أن فيه تغريراً بالشباب من حيث شعرنا أو لم نشعر. قال ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه «الاستذكار» (14/ 96): «لا خلاف علمته أن الرجل لا يجوز له الغزو ووالداه كارهان أو أحدهما، لأن الخلاف لهما في أداء الفرائض عقوق وهو من الكبائر» انتهى كلامه.
ثم أقول لهذا الشاب الذي يخرج إلى الجهاد بغير إذن والديه: ما الذي يضمن لك بأن الله سيغفر لك بجهادك وأن الله تعالى سيقبله؟ فالعبد لا يعلم ما الذي يقبله الله من أعماله، سواء أكان جهاداً، أو صلاة، أو صياماً، أو غير ذلك، فالجهاد بغير إذن الوالدين عقوق ومفسدة محققة وقبول الله تعالى للجهاد مصلحة مرجوة فلا يُقدم ما كان مظنوناً على ما هو محقق، فتنبه لذلك.
وأنصح القارئ الكريم وكل طالب علم بالرجوع إلى كتاب (الجهاد أنواعه وأحكامه والحد الفاصل بينه وبين الفوضى) لأخينا الشيخ الدكتور حمد بن إبراهيم العثمان، فقد عقد باباً جميلاً نافعاً بعنوان (شبهة للتحايل على إسقاط إذن الوالدين) (135- 141) وردَّ على هذه الشبهة من تسعة أوجه -جزاه الله خيراً-.
وإليك أخي القارئ الكريم هذه الفتوى لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان آل فوزان:
السؤال: إذا كان لوالدي إخوة غيري وهم ليسوا بحاجتي ولو احتاجوا شيئاً فإخوتي سيقومون به بدلاً مني، وليس لهم مبرر في عدم ذهابي إلى الجهاد إلا خوفاً من أن أُقتل في سبيل الله. فما الحكم في ذلك؟
الجواب: الحكم أنك تطيعه ولو كان له مئة ولد ولو كانوا يقيمون بما يحتاج إليه ما دام أنه قال لك لا تروح، تجب عليك طاعته والبر به إذا كنت تريد الأجر، أما إذا كنت تريد أنك تركب رأيك أنت فهذا راجع لك أنت، لكن تريد الأجر والثواب أطع والدك ولا تخرج منه وهو غضبان أو أنه ما أذن لك، لأن حقه مقدم بعد حق الله سبحانه وتعالى ـ لكن بعض الناس يحتقر والده يقول: والدي ما له رأي، ولاعنده فكر ولايعرف شيء، يحتقرون والديهم والعياذ بالله ولا يرجعون لهم ويعتبرون أنفسهم أنهم أحسن رأياً من آبائهم هذا لايجوز» انتهى نقلاً من كتاب [تذكير العباد بفتاوى أهل العلم في الجهاد (57- 58)].
رسالة خاصة
لما سمعت المقطع الذي تكلم فيه أخونا فلان -حفطه الله تعالى- أرسلت له رسالة خاصة على هاتفه ولا أعلم هل وصلت أم لا، وما جاءني منه رد، وأنشرها في هذا المقال لعلها تصله ويستفيد منها هو وغيره، ونصُّ الرسالة:
من سالم بن سعد الطويل إلى أخي فضيلة الشيخ المحترم ......
السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فلقد استمعت إلى كلامك حول حكم من يذهب إلى سورية من غير إذن والديه ومن غير إذن ولي الأمر فوجدته مطابقاً تماماً لكلام بعض الناس وكأنكم قد اتفقتم على ذلك اتفاقاً مسبقاً!! فيا ليتك تعيد النظر في قولك لو أن أحداً ذهب إلى الجهاد من غير إذن والديه ومن غير إذن ولي الأمر لكان قد ارتكب معصية ولا يفسد ذلك جهاده، ولعل الله يغفر له معصيته بفضل جهاده. وأقول: هذا التقرير لا شك أنه باطل لأن معناه اذهبوا يا شباب إلى الجهاد ولو عصيتم، فإن الشهيد يُغفر له مع أول قطرة من دمه، إذن لا يضركم لو ذهبتم من غير استئذان!
ولو تأملت كلام العلماء فلن تجد مثل هذا التقرير، ومثل قولك كمثل قول من يقول: اعص الله وتب إليه؛ فإن التوبة تهدم وتَجبُّ ما كان قبلها، ولا شك أن هذا لا يجوز، فقد لا يتمكن الإنسان من التوبة كما قد يتوب ولا تُقبل توبته. وكذا الأمر بالنسبة لمعصية عقوق الوالدين وما يترتب عليها من إحراج لهما فقد يُختطف هذا الشاب وتتم المساومة عليه وقد يحصل لوالديه فتنة في الدين، وقد يبغضان الدين وأهله، وكذلك قد يحصل إحراج للدولة فيما لو خرج الشباب من غير استئذان ولي الأمر.
ثم اعلم بأننا بحاجة إلى شبابنا الصالح أكثر من حاجة سورية إليهم، وقد يحدث عندنا في بلادنا من الفتن ما نحتاج فيها إلى شبابنا، ثم يا ليتك أحلت السائل الى كلام الشيخ صالح بن فوزان آل فوزان -حفظه الله تعالى- فقد كفاك وتحمل ما أنت في غنى عن توريط نفسك فيه، ويا ليتك تفعل كذلك في المسائل المصيرية والنوازل العظيمة، فلا تستعجل وتتكلم في كل مسألة وتتصدّر لها ثم تندم على ما يترتب على جوابك وقد تقع في احراج كبير، وقد يقتنع بعض الشباب بكلامك ويذهب بلا إذن ثم يأتيك أولياء أمورهم ويلومونك على تغريرك إياهم وربما شتموك وسبوك كما نسمع بعض الناس وما يقولونه في فلان وفلان ممن يغررون بالشباب بين الحين والآخر.
اللهم إن كنت مصيبا وناصحاً أميناً لأخي فلان فبلِّغ نصيحتي قلبه وانفعه بها، وإن كنت على غير ذلك فاغفر لي جهلي واسرافي في أمري. والحمد لله اولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه اجمعين.