(قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَر مّثْلُكُمْ)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقد اشتهر برنامج على إذاعة القرآن الكريم الكويتية باسم (تباشير الصباح) أكثر من ذي قبل لما ظهر الدكتور صبري الدمرداش في البرنامج المذكور، فصرّح - كما تواتر النقل عنه - أن الرسول صلى الله عليه وسلم خلق من نور ولم يكن له ظل وأنه خلق قبل آدم عليه السلام ونحو هذه الجمل التي في الحقيقة لم يوفق فيها الدكتور صبري غفر الله له وعفا عنه، فأحببت أن أساهم في نصرة الحق والدفاع عنه، فأقول وبالله أستعين:
أخي القارئ الكريم تدبّر معي هذا السياق العجيب من القرآن الكريم قال تعالى (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)) (الإسراء: 93-90)، وهذا من أساليب الحصر (هل كنت إلا بشرا رسولا) لأن الاستفهام (هل) بمعنى النفي فإذا جاء بعده استثناء (إلا) دلَّ على الحصر، بل هو أقوى أنواع الحصر. ومثل هذا قوله تعالى(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (الكهف 110)، و(إنما) للحصر كما لا يخفى. ولما قال المشركون كما ذكر ذلك الله عنهم في كتابه (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)) (الفرقان 8-7) فقال الله تعالى رداً على هؤلاء ومسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)) (الفرقان- 20( فإذا تدبرنا هذه الآيات وغيرها من آيات القرآن الكريم لم يبق شك لمسلم يؤمن بأن القرآن كلام الله وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر ومن بني آدم، وآدم خُلق من طين، وأما الملائكة فهم الذين خُلقوا من نور، وقد أمر الله تعالى نبيه أن ينفي عن نفسه أن يكون ملكاً وذلك في قوله (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)) (الأنعام 50(.
أخي القارئ الكريم اعلم رحمني الله وإياك أن مما أجمع عليه علماء الأمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل خلق الله تعالى فالقول بأنه خلق من نور أو ليس له ظل ونحو ذلك لا يحتاجه عليه الصلاة والسلام ولكن في هذه الأقوال المحدثة محاذير كثيرة قد لا يدركها بعض العوام بل ولا المثقفون حتى أن بعضهم يقول لماذا هذه الزوبعة له ظل أو ليس له ظل!! بل بعض المغرضين المغرورين بل وربما من المتسترين بدثار الدين وهم من أبعد الناس عنه اعتبر الإنكار على الدكتور صبري - هداه الله للحق - من الحسد ومن الطعن الأهوج والتحامل المريض، بل واعتبر هذا الدفاع الشرعي كما يقول (طعن مشوب باللعبة السياسية الملوثة). وكل هذا الهجوم السافر على أنصار السنة والعقيدة ليس بغريب عن هؤلاء الذين لا يعرف عنهم نصرة للعقيدة السنية السلفية ولا مثقال أوقية فلا نضيع الوقت في الرد عليه وإنما نبين لمن قد ينخدع بباطلهم فأقول:
إن القول بإن الرسول صلى الله عليه وسلم خُلقَ من نور نابع عن عقيدة فلسفية صوفية خبيثة يزعمون أن الله تعالى أخذ قبضة من نور وجهه فقال كوني محمداً فكانت محمداً، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً، فما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بشر يوحى إليه، قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)) (آل عمران 144)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يصيبه ما يصيب البشر ليس له من خصائص الربوبية ولا الألوهية شيء بل هو عبد الله ورسوله، وقولهم هذا من جنس قول النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام.
يلزم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خُلقَ من نور أو ليس له ظل، أو خُلق قبل آدم ونحو ذلك، يلزم منه الكذب على الله تعالى، فالله تعالى وصفه بأنه بشر، والبشر خلقوا من طين فكيف نصًفُهُ بغير ما وصفه الله تعالى به.
كما يلزم من تلك الإدعاءات القول على الله بغير علم، وهذا من أكبر الكبائر، قال تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)) (الأعراف 33(.
وكذلك لا يجوز تصديق أي قول بلا دليل فهذه عقيدة فلا نعتقد إلا ما أخبرنا الله تعالى به في كتابه وما أخبرنا به رسوله صلى الله عليه وسلم بما ثبت عنه من الأحاديث الصحيحة والحسنة، قال تعالى (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) (الإسراء 36) ومعنى (لا تقفُ) أي لا تتبع، فالإنسان مسؤول حتى عما يعتقد في قلبه.
ومن المهم جداً أن نعلم أن الله تعالى جعل نبيه صلى الله عليه وسلم بشراً لحكم كثيرة منها:
أ- حتى تقام الحجة على الكفار إذ لو كان مختلفاً عنهم لقالوا لا نستطيع أن نفهم عنه، قال تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)) (الأنعام 9).
ب- جعل الله تعالى نبيه من جنس قومه حتى يعقلوا عنه ولا يشككوا فيه فكان ذلك من منّة الله تعالى على عباده، قال تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)) [آل عمران-164]، فبيّن سبحانه أنه (من أنفسهم).
ج- وجعل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بشراً حتى يمكن الاقتداء به، وقد أمرنا الله تعالى بذلك فقال (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)) [الأحزاب-21]، فلو لم يكن بشراً مخلوقاً كسائر البشر لتعذر الاقتداء به، ولقال الناس يا رب أرسلت لنا رسولاً من غير طبيعتنا فلا يمكننا الاقتداء به، فلله حكمة بالغة في ذلك.
أخي القارئ الكريم العزيز وفقني الله وإياك للحق والعمل به، الخلاصة أنه لم يدرك كثير من العوام وبعض المثقفين خطورة هذا الاعتقاد والقول به لذلك لم يستنكروا كونه يذاع عبر إذاعة القرآن الكريم. ومثل هذا يذكرنا بقول بعض الناس (ما أهمية كون القرآن كلام الله أو مخلوقا)، فانظر يا أخي القارئ العلماء فتنوا في هذه المسألة وثبت فيها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى حتى شُبّه موقفه بموقف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لما تصدى لمانعي الزكاة في حروب الردة، وهؤلاء يقولون (ما أهمية كون القرآن كلام الله أو مخلوقا؟!). فلا يعلمون أن الفلاسفة والجهمية والمعتزلة سعوا إلى تعطيل الله تعالى عن الصفات الواجبة فأنكروا أن الله يتكلم وزعموا وأن القرآن مخلوق من مخلوقاته ولم يتكلم به إذ أن الله عندهم لا يتكلم فانظر مرة أخرى يا رعاك الله لتدرك مدى الجهل الذي بلغ بالناس فقالوا: (مخلوق من طين أو من نور وله ظل أو ليس له ظل الأمر ليس له أهمية!!). اللهم أدركنا برحمتك وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أخي القارئ تابع معي المقال القادم وفيه بيان ونصيحة للدكتور صبري الدمرداش ولكل من يستمع إلى برنامجه في (تباشير الصباح) من إذاعة القرآن الكريم الكويتية.
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.