إخوتي: ما الذي أغضبكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن أنبياء الله تعالى هم أحسن الناس خلقاً، وأرفعهم أدباً، لذا قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]. لقد ذكر الله لنا في كتابه ما لقيه أنبياء الله من أقوامهم من أذى، وكيف ردّوا عليهم، فقال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا الَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ انِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)} [الأعراف]، فتأمل كيف تلطف معهم، وتودد لهم، فقال: {يَا قَوْمِ}، ثم أمرهم بأمر عظيم هم أحوج ما يكونون اليه يضمن لهم سعادة الدنيا والآخرة، فقال: (اعبدوا الله)، أمرهم بالتوحيد، وما أدراك ما التوحيد، ثم علل ذلك فقال: {مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ}، فالله تعالى هو الاله الحق المستحق للعبادة وحده، لا شريك له، وكل من سواه فهو اله باطل، ثم أظهر شفقته عليهم فقال: {انِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي ان عبدتم غير الله تعالى، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وهو يوم القيامة. فبماذا أجابوه على هذه الدعوة اللطيفة والنصيحة المشفق بها عليهم؟ قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ انَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} [الأعراف]، أي ضلال بيّن، فبماذا أجابهم عليه السلام؟ والله ما زجرهم ولا نهرهم ولا سبهم ولا شتمهم، كلا والذي نفسي بيده، وانما قال {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} [الأعراف: 61]، وهذا أبلغ من ان يقول لست في ضلال، لأن قوله أعم في نفي الضلال فكلمة (ضلالة) نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم، أي ليس بي أي ضلالة لا قليلة ولا كثيرة، ولا أي نوع من الضلال، {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف].
ومثل هذا الخلق والأدب ذكر الله تعالى عن هود عليه السلام فقال: {وَالَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ انَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَانَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)} [الأعراف]. سبحان الله! لم يقل: بل أنتم السفهاء، فما أجمل رقي الأخلاق في تعامل الأنبياء، بعض الناس لا يتحمل ان يُنتقد بكلمة واحدة، أو تُسجل عليه ملاحظة، فكأنه يقول بلسان حاله: «انه معصوم»، أو فوق مستوى النقد، فلا يقبل نصيحة ولا يرضى بنقد ولا يلتفت الى تنبيه، ولا يعتبر بأي اعتبار، بل ربما انتفض وغضب وخاصم بل وفجر في الخصومة وأعلن الحرب على من انتقده أو سجل عليه ملاحظة!!
و اليك أخي القارئ هذا الدرس النبوي العظيم:
أخرج أحمد والطحاوي والحاكم والبيهقي من طريق المسعودي عن سعيد بن خالد عن عبدالله بن يسار عن قتيلة بنت صفي امرأة من جهينة- قالت: «ان حَبرًا جاء الى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: انكم تُشركون تقولون: ما شاء اللهُ وشئتَ وتقولون: والكعبةِ فقال: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قولوا: ما شاء اللهُ ثم شئتَ، وقولوا وربِّ الكعبةِ».[ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (263/1)، وذكر له شواهد (139-138-137)]، والحبر هو العالم من اليهود.
فتأمل أخي القارئ سعة صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقبله للحق وتواضعه العظيم، فوالله لم يقل هذا يهودي كافر لا أقبل منه، كلا، وانما بادر وأمر أصحابه ووجهه للأخذ بما قاله اليهودي. سبحان الله، أحدنا لو قيل له اتق الله ربما أخذته العزة بالاثم، بينما قال الله تعالى لنبيه محمد صلى اله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهمَّ! اني أسألُك الهدى والتقى، والعفافَ والغنى».وفي روايةٍ: «والعفَّةَ» [رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود، رقم:2721]. وأحدنا لو قيل له: استغفر الله، لربما استعظم هذا بينما لما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ انَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر]، تأول هذه الآية، فكان يكثر ان يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدِك، اللهم اغفرْ لي» [رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها: رقم: 4293].
أقول: ان من أعظم المصائب ان يحسن أحدنا الظن بنفسه، ويبرؤها من الهوى قليله وكثيره، وقد نكون غارقين في بحور الهوى ونحن لا نشعر، وليفتش أحدنا في قلبه وليحمل نفسه ويربيها على قبول الحق اذا بلغه حتى من عدوه، فضلاً عن أخيه أو صديقه، ولنتأمل قوله الله تعالى لعبده ونبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ انَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ان الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص]. قال بعض أهل التفسير: لم يقل الله يا دواد لا تهوى، بل قال: لا تتبع الهوى، لأن الهوى في كل نفس والا لم يكن للنهي عن اتباع الهوى معنى.
فائدة
قال العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني -رحمه الله تعالى- في كتابه [التنكيل (197/2)]: (فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشد مما أنت مبتلى به! فهل تجد استشناعك ما هو عليه مساوياً لاستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتلك اياه؟ وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من ان تُحصى وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي، فيلوح لي فيها معنى فأقرره تقريراً يعجنبي، ثم يلوح لي ما يخدش ذلك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخدش، وتنازعني نفسي الى تكلف الجواب عنه، وغض النظر عن مناقشته ذلك الجواب، وانما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف اذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح الخدش ولكن رجلاً آخر اعترض علي به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟) انتهى كلامه رحمه الله.
أخي القارئ الكريم! هل تدبرت كلام العلامة المعلمي؟ والله يكاد من يقرأه يحسبه من مشكاة النبوة، وهذا ليس بغريب، فالعلماء ورثة الأنبياء فمن ذا الذي يجزم بتزكية نفسه بأنه سالم من الهوى وأن ما يقرره لا هوى له فيه؟! ومن أكبر مظاهر اتباع الهوى الانتقام للنفس والتعصب للرأي واحتقار الناس، فنعوذ بالله من الهوى والضلال والفتن ما ظهر منها وما بطن. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.