تصفية بلا تربية (١)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلقد اشتهرت كلمة للشيخ المحدث محمد ناصر الدين الألباني -رحمه لله تعالى- التي بنى عليها دعوته واستمر عليها عشرات السنين وهي (التصفية والتربية)، ومعنى هاتين الكلمتين: أي تصفية الاسلام مما علق به مما ليس منه واظهاره صافياً نقياً كما أنزله الله تعالى، وتصفيته من الشرك والشعوذة والبدع والتصوف والموالد البدعية والتحزب والروايات الاسرائيلية، والأحاديث الضعيفة، والموضوعة، وتصفية الاسلام مما ألصق به وليس منه في شيء، كبدعة الخروج باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسفك الدماء بغير حق باسم الجهاد، والديموقراطية باسم الشورى النبوية، والاشتراكية باسم العدالة الاسلامية، والتحزب باسم السياسة الشرعية، وغير ذلك مما لا أصل له في الاسلام. وأما المراد بالتربية فهو تربية المسلمين على العمل بأحكام الاسلام، عبادةً وخلقاً وأدباً، وبعد عشرات السنين من دعوة الشيخ الألباني رحمه الله تعالى أقرَّ الله تعالى عينه بما رآه من انقلاب كبير في التصفية، فانتشرت السنة وانتشر الوعي وظهر كثير من الحقائق وبان زيف كثير من البدع، لكنه رحمه الله قال كلمة عجيبة يتذكرها بعض من سمعها منه!!
قال: (بعد هذه الدعوة الطويلة قد حدث في العالم الاسلامي من التصفية لكن مازال النقص في التربية كبيراً!!) انتهى كلامه. و صدق رحمه الله تعالى، حقاً من تتبع أحوال كثير ممن حصل عنده وضوح في العقيدة والمنهج ينقصه كثير من العبادة والنسك والأخلاق الحميدة والتأدب بآداب الاسلام. والواجب علينا الاقرار بهذه الحقيقة لعلاج أنفسنا واستدراك ما فاتنا، لأن من لا يشعر بالتقصير لن يسعى الى التعديل والتغيير. وقديماً قيل: صديقك من صَدَقَك لا منْ صَدَّقك.
قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: (وقد عزَّ في هذا الزمان وجود صديق على هذه الصفة (المصارحة والمناصحة) لأنه قلَّ في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب، وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم، ونحن الآن في الغالب أبغض الناس الينا من يعرف عيوبنا، وهذا دليل على ضعف الايمان) انتهى من كتاب (مختصر منهاج القاصدين، ص 147)، والله المستعان.
وعلى الرغم من اقرار كل الناس بأن لا أحد معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أننا قلَّما نجد من يعترف بخطئه أو تقصيره أو سوء فهم، فقد دبَّ في كثير منّا داء العجب والكبر بنسب متفاوتة وقد يكون هذا خلل في العقيدة وفساد في القلوب، والسلف كانوا اذا قرأوا آيات الوعيد خافوا خوفاً شديداً، ووجلت قلوبهم خشية ان يشملهم ذلك الوعيد، واذا ذكر لهم أو عندهم أحوال وصفات أهل الجحيم من اليهود والنصارى والمنافقين يكاد أحدهم يظنه نفسه المقصود بذلك وحسبنا قوله ابن أبي مُليكة لما قال: «أدركت ثلاثينَ من أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، كلُّهُمْ يخافُ النفاقَ على نفسهِ، ما منهم أحدٌ يقولُ: انه على ايمانِ جبريلَ وميكائيلَ«[فتح الباري لابن رجب- (177/1)].
لقد فقدنا كثيراً من القيم والآداب الاسلامية باسم الدعوة والدفاع عن العقيدة وباسم نصرة السنة والصدع بكلمة الحق، حتى ظهرت علينا سمات الغلظة وعرفنا بالشدة وأكثرنا من تحميل الكلام ما لا يحتمل، وغفلنا عن قول الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الحجرات: 29]، وغفلنا عن قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، وتجرأنا على من علمنا ودرسنا وقلَّ احترام الكبير، وزال توقير العالِم الجليل، حتى صدق على بعضنا قول الشاعر:
أُعَلِّمُهُ الرِّمَايةَ كُلَّ يَومٍ ..... فَلمَّا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمَانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوَافِي .... فَلَمَّا قَالَ قَافِيةً هَجَانِي
واستبحنا الغيبة بسبب سوء الظن والتحسس والتجسس وتتبع العورات، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ان بَعْضَ الظَّنِّ اثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ان يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ ان اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات: 12]، وكأننا لم نسمع بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنَّةَ قتَّاتٌ» [رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه-، رقم: 6056]. و سلم الكفار من ألسنتنا ولم يسلم أحبتنا، نسينا أهل الأهواء وأتباع الأحزاب وانشغلنا بأقرب الناس لنا، وسميناهم (حاشية الأحزاب)، وظن من ظنَّ ان أهل السنة أولى بالطعن والعيب بلا شك ولا ريب، والحق ان هذه غفلة، وتزيين من الشيطان اللعين.
فيا ليتنا نعيد النظر في أخلاقنا ونجعل الله تعالى ومراقبته نصب أعيننا ونتناصح بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، فالمسلم ينصح والمنافق يفضح، ولنجعل شعارنا (رحم الله امرءاً أهدى الى عيوبي)، قال تعالى: {انَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} [الحجرات: 10]، وقال تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ايَّاكُم والظَّنَّ، فانَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحديثِ، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تَناجَشوا ولا تحاسَدوا ولا تباغَضوا، ولا تدابَروا، وَكونوا عِبادَ اللَّهِ اخوانًا«[رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة، رقم (6066)، ومسلم رقم (2563)]. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْايمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا).
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.