.........(أخطأتُ).........
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
فإنَّ كثيراً من الناس يصعب على نفسه أن يقول (أخطأتُ)، فيثقل لسانه إذا جاء ينطق بها، وكأنه يرى في نفسه العصمة، وكذلك يصعب عليه جداً أن يقول عن شيخه أو أستاذه أو إمامه (أخطأ)، بل قد نجد كثيراً من الناس من يصعب عليه أن يقول له أحد كلمة (أخطأتَ) أو (أخطأ) شيخك أو أستاذك أو إمامك !! لماذا ؟
هل يعقل أنَّ شخصاً (ما) يتكلم ويقرر ويكتب ويصنِّف منذ عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة ما أخطأ في حياته قط ؟ حتماً لا يُعقل هذا.
ولو كان ثمَّ أحد لا يخطئ في كلامه لكان كلامه وكلام الوحي سواء والله تعالى يقول: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] ويقول جل وعلا: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤٢]، ويقول جل وعلا في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ❊ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣-٤]، والمفهوم من هذه الآيات أنّ كل كلامٍ غير الوحي يعتريه النقص والتناقض والباطل، والفرق بين كلام الخالق وكلام المخلوق كالفرق بين الخالق والمخلوق .
أيها القارئ الكريم ألسنا بشراً من بني آدم ؟
إذن ما الذي يخرجنا من عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل ابن آدم خطاء»؟ (صحيح الترمذي للألباني - ٢٤٩٩) [عن أنس بن مالك ].
ألسنا من عباد الله ؟
إذاً فما الذي أخرجنا من عموم قول الله تعالى في الحديث القدسي: « يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار » ؟ [رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري، (٢٥٧٧)].
لو كنا لا نخطئ إذن لماذا شُرِّعَ لنا أن نقول في دعائنا « ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا » [رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، (١٢٥)].
لو كنا لا نخطئ لما قال الله تعالى : ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ [الأحزاب]، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ » . ( إرواء الغليل للألباني 1/ 123 رقم 82 )
اعلم أخي القارئ الكريم ليس عيباً أن تخطئ لكن العيب أن تكابر وتصر على خطئك وتبرر جميع أقوالك وأفعالك كما هو حال كثير من الناس.
ويا ليتك أخي القارئ العزيز تقرأ هذا الحوار القرآني بتدبر وتأمل لتستفيد منه فوائد عظيمة.
الحوار في سورة الشعراء الآيات من ١٠- ٢٩ في ذكر قصة موسى عليه السلام مع فرعون، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ❊ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ ❊ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ❊ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ❊ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ﴾ وكان موسى عليه السلام قد قتل رجلاً من قوم فرعون خطأ.
قال تعالى ﴿ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ❊ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ❊ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ والقصة مختصرة في هذا الموضع، والسياق يدل على موسى وهارون عليهما السلام أتيا فرعون وقالا له ما أمرهما الله تعالى به فردَّ فرعون بثلاث إجابات؛ (الأولى) : ذكر منَّته على موسى عليه السلام بقوله ﴿ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ﴾ . و(الثانية) عيَّره بذنبه وهو قتله للفرعوني فقال:﴿ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ ﴾ و(الثالثة) سبّه وشتمه فقال ﴿ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ ، ثمَّ ما كان من موسى عليه السلام إلا الاعتراف والإقرار بالخطأ الذي ارتكبه من غير مكابرة ولا مراوغة ولا تبريرات فقال ﴿ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ❊ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ﴾ فيا ليتنا نتعلم هذا الخلق العظيم من هذا النبي الكريم عليه من الله أتم التسليم.
ثم بعد ذلك نفى عن نفسه ما شتمه به وبين بأنه ليس بكافر ﴿ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾، وتأمل لم يقل له : بل أنت الكافر وأنت الكذاب وأنت وأنت وأنت، كلا بل اكتفى بأن قال إن الله بكرمه وفضله ورحمته وهبني حكماً واصطفاني نبياً ورسولاً.
ثمَّ ذكر له السبب الذي جعل أمه تضعه في تابوت وتقذفه في اليمِّ (أي البحر) فالتقطه آل فرعون وهو وليدُ رضيعُ فربوه في بيتهم، فقال ﴿ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، أي بسبب قتل فرعون لأبناء بني إسرائيل رمته أمه خوفاً عليه فالتقطه آل فرعون وتربى عليه السلام في بيتهم.
بعد ذلك سأل فرعون سؤالاً استنكارياً ﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ فأجابه موسى عليه السلام بدعوة التوحيد فقال ﴿ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ﴾ فسخر به فرعون واستهزأ به فـ ﴿ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ ﴾ لم يلتفت موسى عليه السلام إلى استهزائه وسخريته بل استمر بدعوة التوحيد فـ ﴿ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ﴾، فلجأ فرعون- كعادة من لا حجة له- إلى أسلوب السبِّ والشتم فـ ﴿ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾، استمر موسى عليه السلام في دعوة التوحيد ولم يشتغل بالرد على الشتائم ولم ينتقم لنفسه، ففي انشغاله بالتوحيد والدعوة إليه ما هو أهم من ذلك فـ ﴿ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، فلجأ فرعون إلى أسلوب التهديد والوعيد، فـ ﴿ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ إلى آخر ما قصَّه الله علينا في كتابه.
واعلم أخي القارئ وفقك الله إلى كل خير أن مَنْ لا يقرُّ بأخطائه إذا نُبِّه عليها فإنه يحرم نفسه من نصيحة الناصحين، فكلما لاحظوا عليه خطأ سيعرضون عنه لأنه لا يقر بخطئه ولو كان خطأه واضحاً كالشمس في رابعة النهار !
إن من كمال الديانة ورجاحة العقل أن تتجنب الكبر والإعجاب وتتواضع للحق وتقبل النصيحة ولله دره من قال: ( رحم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي ).
اليوم قلما من نجد من الإخوان من يكون مخلصاً في نصحه، صريحاً بعيداً عن المداهنة، متجنباً للحسد والانتقام للنفس والانتصار للرأي، يخبر بالعيب لا يزيد ولا ينقص وليس له أغراض حزبية ولا هوى يرى من خلاله عيباً ما ليس بعيب، أو يقلب الحسنات سيئات أو يخفيها، فعزَّ الناصح والمنصوح.
أخي الكريم لو نبهك أخوك على نجاسة في نعلك لكان من اللائق بك أن تشكره فكيف لو أخبرك بأن تحت نعلك عقرباً تتجه إليك؟ أليس من اللائق أن تشكره وتدعو له بل وتكافأه ؟ فما بالك إذا نبهك أخوك على فساد في عقيدتك أو ضلال في منهجك أو انحراف في سلوكك وخلقك تغضب ولا تقبل نصيحته ؟ أليس هذا الناصح أولى بالشكر والدعاء ؟ لماذا نواجه من يبين لنا عيوبنا بالسب والتشهير والوعيد؟
سأقول لكم لماذا ؟ لأننا لم نعتد على كلمة [ أخطأتُ ] والله المستعان .
لقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقول في صلاتنا: « اللهمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت، فاغفرْ لي مغفرةً من عندِك، وارحمْني، إنك أنت الغفورُ الرحيمُ » [رواه البخاري (٨٣٤، ٦٣٢٦) ]، وعلمنا أن يقول أحدنا: « وأبوءُ لَكَ بذنبي فاغفِر لي ، فإنَّهُ لا يغفرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ» [رواه البخاري عن شداد بن أوس، (٦٣٠٦)].
أسأل الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله أولًا وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.