... يا كذاب !!
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن اطلاق كلمة يا كذاب أو فلان يكذب أو كذوب أو يفتري أو مفتري أو عنده افتراءات، أو غير ذلك من مشتقات هذه الكلمات ونحوها من الكلمات والألقاب قد ابتلي به كثير من الناس، فتجدهم لا يتورعون عن قذف المسلم بمثل هذه الألقاب ظلماً وعدواناً وكأن المسلم لا حرمة له عند الله، والله تعالى يقول: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب:٥٨].
ولا شك أن اتهام المسلم بالكذب والافتراء من اعظم الإيذاء الذي يتأذى به الإنسان؛ حتى قال غير واحد من الفقهاء إنه من القذف الذي يحق للحاكم أو القاضي أن يحكم على من فعله بالتعزير، كما قال المرداوي في [الإنصاف (ص٢٧/ جـ١٠]: (يُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ «يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يَا رَافِضِيُّ، يَا خَبِيثَ الْبَطْنِ، أَوْ الْفَرْجِ، يَا عَدُوَّ اللَّهِ، يَا ظَالِمُ، يَا كَذَّابُ، يَا خَائِنُ، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا مُخَنَّثُ» نَصَّ عَلَى ذَلِكَ( انتهى كلامه.
والأصل في وجوب التعزير أنَّ كل من ارتكب منكراً أو آذى مسلماً بغير حق بقوله أو فعله وجب تعزيره. والكذب من أخبث الأخلاق وأحطها، وهو من صفات وخصال المنافقين لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصاً، ومن كانت فيه خلةٌ منهن كانت فيه خلةٌ من نفاقٍ حتى يدعَها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» [صحيح البخاري: رقم (٣٤)، وصحيح مسلم: رقم (٥٨) واللفظ لمسلم].
فقذف المسلم بيا كذاب ونحوه فيه إيذاء كبير وظلم مبين والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «... المسلمُ أخو المسلمِ، لا يظلِمُهُ ولا يخذلُهُ، ولا يحقِرُهُ. التَّقوَى ههُنا ويشيرُ إلى صدرِهِ ثلاثَ مرَّاتٍ...» [أخرجه مسلم في صحيحه، رقم (٢٥٦٤)، عن أبي هريرة رضي الله عنه].
والواجب على المسلم أن يتقي الله فلا يتعجل بقذف أخيه المسلم بالكذب والافتراء قبل أن يتحقق، فقد نجد اليوم من لا يتقي الله ولا يتورع عن قذف المسلمين عند عدد لا يحصيه إلا الله من خلال الوسائل الحديثة كأجهزة التواصل ونحوها، فتبلغ أحيانا كلمته القارات الست خلال ثوانٍ، ولا أدري والله كيف لا يخاف المسلم على حسناته وهو يقرأ حديث المفلس الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (رقم ٢٥٨١) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه، قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه. ثمَّ طُرِح في النَّارِ » .
وما الذي يمنعك يا مسلم من اختيار الكلمة الحسنة بدلاً من أن تبادر إلى الكلمة القبيحة، فبإمكانك أن تقول لعل فلاناً أخطأ أو توهم أو استعجل أو أساء الفهم، أو التبس عليه الأمر، أو ظن أنني أقصد كذا، أو نحو تلك الكلمات التي تصلح بديلاً عن الكلمات والألقاب الجارحة المؤذية، وأين أنت من قول الله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: ٨٣]، وقوله جل وعلا: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) [الإسراء:٥٣]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «... والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ» [أخرجه البخاري برقم (٢٩٨٩)، ومسلم برقم (١٠٠٩)، عن أبي هريرة رضي الله عنه].
نعم العلماء كانوا يقولون فلان كذاب وفلان دجال وفلان وضّاع، ونحو ذلك، لكن يقولون ذلك في حق من كان يفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضع عليه الأحاديث المكذوبة بقصد إفساد الدين. وأيضا قد تصدر بعض الكلمات من بعض العلماء على سبيل القلة بل والندرة فلا نأخذ من ذلك منهجاً نسير عليه فنرمي القريب والبعيد بالألقاب القبيحة فهذا لا شك منهج غير قويم.
وبقيت مسألة في غاية الأهمية وهي أن بعض الناس ينتقم لنفسه أو لهواه أو لشيخه أو لصاحبه أو لمجموعته أو لجماعته أو لحزبه، ثم يزعم أن فعله وانتقامه وحماسه وانفعاله إنما هو لله أو نصرة للدين أو للسُّنة، أو لمنهج السلف. وغفل هذا المسكين المغرور بأن الله يعلم ما صدره ومطلع عما في قلبه، وأنه جل وعلا لا تخفى عليه خافية قال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) [غافر: ١٩]، وقال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة: ٢٣٥].
أخي المسلم اتق الله ولا تأخذك العزة بالإثم ولا تنفِّر الناس من دعاة التوحيد والسنة فإن الناس إذا سمعوك أو قرؤوا كلامك بأن فلاناً كذاب أو مفترٍ نفروا من دعوة التوحيد التي يدعو بها وإليها، وقد تصد عن سبيل الله من حيث تشعر أو لا تشعر، وقد تفعل ذلك من أجل أن تنتقم لنفسك فحسب وتشمِّت أهل الأهواء بإخوانك أهل السُّنة. ثمَّ هب أن نفسك سولت لك أن تنتقم، وأن هذا من حقك فلا تتجاوز القدر المأذون لك به شرعا، قال تعالى: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [الشورى:٤٠]، وقال تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) [البقرة: ١٩٤] . ولا تتجاوز ولا تسرف فتستعين بالقريب والبعيد ومن الداخل والخارج وتسيِّر حملة كاملة للطعن والتشهير وتستبيح عرضه وتغتابه وتنمم بينه وبين غيره فهل هذا يجوز شرعاً؟ الله المستعان.
أخي المسلم عملاً بقول الله تعالى (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) [ق:٤٥]، فإني أذكرك بقوله تعالى (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) [ق:١٨]، وقوله تعالى (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [المجادلة:٦]، وقوله تعالى أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ❊ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ❊ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ) [العاديات٩-١١]، وقال تعالى: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [الجاثية:٢٩]، وقال تعالى (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) [القمر:٥٣]، وأما من لا يتعظ بالقرآن فليس أمامنا إلا أن نشتكي عليه عند السلطان لنعينه على نفسه وليتوقف عن كسب السيئات، وليس في هذا عيب كما ظنَّ بعض الناس.
وقد سُئل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى عن الأثر المشهور (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) فأجاب رحمه الله تعالى: (هذا الأثر معروف عن عثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث- رضي الله عنه-، ويروى عن عمر أيضاً- رضي الله عنه-: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، معناه يمنع بالسلطان باقتراف المحارم، أكثر ما يمنع بالقرآن؛ لأنَّ بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن، ونهي القرآن، بل يقدم على المحارم ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان، ارتدع، خاف من العقوبة السلطانية، فالله يزع بالسلطان يعني عقوبات السلطان، يزع بها بعض المجرمين أكثر مما يزعهم بالقرآن لضعف إيمانهم، وقلة خوفهم من الله- سبحانه وتعالى-، ولكنهم يخافون من السلطان لئلا يفتنهم، أو يضربهم، أو ينسَّلهم أموالاً، أو ينفيهم من البلاد، فهم يخافون ذلك، فينزجرون من بعض المنكرات التي يخشون عقوبة السلطان فيها، وإيمانهم ضعيف، فلا ينزجرون بزواجر القرآن ونواهي القرآن؛ لضعف الإيمان وقلة البصيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المصدر: http://www.binbaz.org.sa/mat/19318
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.