لم نعهد هذا التجمع والتحزب إلا عند الصبيان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد :
فقد أرسل لي أحد الإخوة رسالة من فرنسا هذا نصها :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا شيخ أنا تائهٌ !!! وأخشى على نفسي الإنتكاس وذلك أني كنت مع اتباع الشيخ (فلان) لمدة من الزمن وبدّعتُ أغلب المشايخ ثم تراجعتُ عن ذلك واستغفرتُ الله ، وقلتُ ارجع إلى بعض الإخوة ممن هم مع الشيخ (فلان) لكنني ما وجدتُ راحتي بينهم ، فقد رأيتُ كثيراً من التناقضات وتتبع العثرات والغلو في شخص الشيخ (فلان) ولا يختلفون عن الذين تركتهم من حيث الشدة في التبديع والنقد وتتبع العثرات وتحميل الكلام ما لا يحتمل ، فقلت لا يمكن أن اصبر على هذا وقلت انظر فيما كتبه الشيخ (فلان) فوجدتُ عنده حكمةٌ ولينٌ ولكن عنده أيضاً تساهل فاق الحد، بحيث أذن لكل من هب ودب أن يكتب في منتداه !
فوالله يا شيخ قد تعبت تعباً شديداً وكأني في هذه الحالة لا استريح إلا إذا جعلتُ لي شيخاً أمامي اتبعه وإلا أكون تائها ً!
أرجو أن تنصحني يا شيخ فإني أحبك في الله .
وبلغني أنك تنصح بعدم التدخل بين المختلفين، وجزاك الله خيرا يا شيخ وجعل مثواك الجنة على نصيحتك في محلها.
صحيح ليس بالضرورة أن أدخل في كل صراع بين متصارعين ، ولكن إذا خالطت الإخوة هنا في فرنسا يسألوني هل رأيت رد الشيخ (فلان) على فلان ؟!
وفي هذه الحالة أجد نفسي محشوراً بين أمرين وهما إما أن اشاركهم الرأي وأوافق الشيخ (فلان) لأسلم بنفسي أو أبدي رأيي بصراحة. فإن تكلمتُ بما أخالفهم فيه نالتني سهام الجرح بل حتى وإن سكتُ فلن أسلم وسيفعلون كل شيء لامتحاني حتى أقع في شباكهم ليحددوا موقفهم مني هل معهم أو ضدهم !!
يا شيخ أنا والله أبغض التقليد وأبغض الغلو في الأشخاص ، طرقتُ كثيراً من الأبواب باحثاً عن الحق وحلاوة الإيمان التي لقيتها عند معرفتي للمنهج السلفي، ولكن سرعان ما تلطخ قلبي بـ (فلان حزبي) والآخر (مبتدع) وهذا (متلون) وهذا (مميع) وذاك (غير واضح) وفلان (احذر منه) وفلان (تحت المناصحة) وفلان (يزور فلاناً أو ينزل على فلان) أو فلان ( لا يبدع فلاناً) وفلان (يزكي فلاناً) وهكذا حتى تركت حفظ القرآن وأعمال الخير بسبب هذا الكلام فأصبح قلبي قاسيا والله المستعان) انتهت رسالته .
فأرسلت له رسالتي الآتية :
وعليك السلام ورحمة الله الله وبركاته
أحبك الله الذي أحببتني فيه .
أخي الكريم لا تكن تابعاً لأحد من هؤلاء واتبع رسول الله ﷺ متابعة تامة ، فهذا الذي أمرنا الله تعالى به فقال :﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: ٣١]، ثم اتبع ورثته وهم العلماء ما لم يظهر منهم بعض المخالفات الشرعية التي عندك عليها من الله برهان أنها مخالفات التي قد تكون عن اجتهادات فردية هم مؤجورون عليها .
وعلى سبيل المثال لا الحصر أنصحك بالشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى ، ففيه اعتدالٌ وحكمةٌ ورحمةٌ وعنده فقهٌ عجيبٌ ، اعتنِ بنصائحه، وليس بالضرورة تدخل في كل خلاف بين فلان وعلان ، اعتنِ بدينك وعبادتك وأخلاقك وأسرتك، ودع عنك كل هذه الصراعات ، ولا تخالط من يضرك في دينك لا سيما الذين يجبرونك على إصدار الأحكام على فلان وفلان، واعلم أن الله تعالى ما كلفك بإصدار الأحكام على كل إنسان بعينه ؛ وإنما كلفك بمعرفة الحق واتباعه ومعرفة الباطل واجتنابه وما لا يعنيك لا سيما إذا كان ليس في عصرك ولا مصرك فلست مضطراً أن تتابع ماذا قال وماذا قيل فيه.
ولقد وقفت على كلام نفيسٍ لشيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى وهو ينصح من أشرت إليهم في رسالتك لعل فيه فائدة لك ، ولمن بلغ .
يقول شيخنا رحمه الله تعالى:
(فلا بد من إخلاص المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبذلك نحقق شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
ومن تقوى الله : الحرص على هداية عباد الله ، ومن تقوى الله سبحانه وتعالى أن تحرص غاية الحرص على هداية عباد الله ، وذلك بنشر العلم الصحيح المأخوذ من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأن تُبين لهم طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
وأن ترشد الناس إلى ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من قوله: « مِن حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه » ، أي: ما لا يهمه .
فإذا رأيت الإنسان كادحاً إلى الله عزَّ وجل َّ، مشتغلاً بما يهمه عما لا يهمه ، وليس له همٌّ إلا ما يقرب إلى الله ، فاعلم أن ذلك من حسن الإسلام .
وإذا رأيت إنساناً يهتم بأمور لا حاجة إليها ، وليس معنياً بها ، وأن أكثر أوقاته في القيل والقال ، وكثرة السؤال ، فاعلم أن ذلك من نقص إسلامه ، ومِن ثَم َّ ( نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن قيل وقال ، وكثرة السؤال) ؛ لأن ذلك يضيع الوقت .
وإذا مَرِضَ الإنسان بهذا المرض ضاع عليه وقته ، فصار يجلس إلى هذا ويقول : ما الذي حدث ؟! ماذا قال فلان ؟! وماذا قال فلان ؟! ثم إلى الثاني ويقول له كذلك ، ثم إلى الثالث ، والرابع ، وهكذا يضيِّع أوقاتَه، وأوقاتَ غيره .
ولكن ينبغي للإنسان أن يسير على ما يهمه ويعنيه ، ولا بأس أن يسأل إذا دعت الحاجة إلى السؤال عما حدث ، وعما يكون في المجتمع ، من أجل مداواته ، وإزالة المرض ، لا من أجل أن يشمت بالغير ، أو أن يجعل ذلك مثاراً للشقاق والنـزاع ، كما يوجد من بعض الناس الآن ؛ حيث إن بعض الناس له نية طيبة، لا يُتَّهَم ؛ لكنه مسكينٌ ابتُلي بهذا المرض وهو أن لا يكون له هَمٌّ إلا القيل والقال ، وماذا قال فلان ؟! وماذا قال فلان ؟! وماذا قالت الطائفة الفلانية ؟! وماذا قالت الطائفة الفلانية ؟! لا لأجل أن يداوي المرض ويزيل الشقاق ؛ ولكن ليشمت ، أو ليقول كما يقول الصبيان : أنت مع هؤلاء أم مع هؤلاء ؟! فلم نعهد هذا التجمُّع والتحزُّب إلا عند الصبيان!
لذلك أوصيكم بالتخلي نهائياً عن هذه الأمور؛ لأنه لا يخدم المصلحة، بل يضيع الأوقات، ورسول الله ﷺ نهى عن إضاعة المال، وعن إضاعة الوقت في القيل والقال، وكثرة السؤال).
انتهى كلامه رحمه الله تعالى وجزاه الله عنا خيراً.
لقد كان مربياً فاضلاً بحق فوالله لم نسمع منه قط أنه دعا الناس إلى نفسه ولا طلب من أحد أن يواليه ويعادي غيره أو أن ينصر رأيه ويقبح رأيه غيره.
ووالله الذي لا إله إلا هو ما سمعته قط بدّع شخصاً بعينه ممن ظاهره السُّنة بالجملة حتى إذا ردَّ عليه فكان يرد على خطَّئه بل كان يكره ذكر الأسماء في مجلسه ويقول: (ليس من شأننا أن نتحدث عن شخص بعينه؛ لكننا نقول كل إنسان له قدم صدق في الأمة الإسلامية من أول الأمة إلى آخرها لا شك أنه يُحْمَد على ما قام به من الخير.
وكل إنسان مهما بلغ من العلم، والتقوى فإنه لا يخلو من زلل، سواءً كان سببه الجهل، أو الغفلة، أو غير ذلك، لكن المنصف كما قال ابن رجب- رحمه الله- في خطبة كتابه: القواعد: (المنصف من اغتفر قليلَ خطأِ المرء في كثير صوابه)، ولا أحد يأخذ الزلات، ويغفل عن الحسنات إلا كان شبيهاً بالنساء.
فإن المرأة إذا أحسنتَ إليها الدهر كله ثم رأت منك سيئة قالت: لَمْ أرَ خيراً قط، ولا أحد من الرجال يحب أن يكون بهذه المثابة- أي: بمثابة الأنثى- يأخذ الزلة الواحدة، ويغفل عن الحسنات الكثيرة.
وهذه القاعدة، أي: أننا لا نتكلم عن الأشخاص بأعيانهم، لا في مجالسنا في مقام التدريس، ولا في اللقاءات، ولا فيما يورَد إلينا من الأسئلة، أقول: هذه القاعدة نحن ماشون عليها، ونرجو الله- سبحانه وتعالى- أن يثبتنا عليها؛ لأن الكلام عن الشخص بعينه قد يثير تحزبات، وتعصبات، والواجب أن نعلق الأمور بالأوصاف لا بالأشخاص، فنقول: من عمل كذا فيستحق كذا، ومن عمل كذا فيستحق كذا، سواءً كان خيراً، أو شراً، ولكن عندما نريد أن نقوِّم الشخص يجب أن نذكر المحاسن والمساوئ؛ لأن هذا هو الميزان العدل، وعندما نحذر من خطأ شخص نذكر الخطأ فقط؛ لأن المقام مقام تحذير، ومقام التحذير ليس من الحكمة أن نذكر المحاسن؛ لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن السامع سيبقى متذبذباً، فلكل مقام مقال فمن أراد أن يتكلم عن شخص على وجه التقويم، فالواجب عليه أن يذكر محاسنه ومساوئه، هذا إذا اقتضت المصلحة ذلك، وإلا فالكف عن مساوئ المسلمين هو الخير. وأما من أراد أن يُحذِّر من خطأ، فهذا يذكر الخطأ، وإذا أمكن أن لا يذكر قائله فهو خير أيضاً؛ لأن المقصود هو هداية الخلق) انتهى كلامه رحمه الله تعالى من لقاء الباب المفتوح [٦٧].
أقول: للأسف أن بعض الذين يؤججون المشاكل ويُدِيرون الحزبية هم ليسوا من تلك البلاد الغربية، بل هم من هنا من جزيرة العرب ، مع أن بعضهم يتظاهر بالسلفية ويحارب الحزبية في الحقيقة والواقع وهو من أشد الناس تحزباً وعصبيةً ، بل لا يكاد يستفيد منه مسلمو أوروبا وامريكا وشمال افريقياً سوى التحزب والتعصب، مع أن المسلمين في بلاد الغرب الكافرة بحاجة ماسة إلى معرفة التوحيد والفقه في الدين؛ فكثير منهم يجهل أركان الإسلام والإيمان ويجهلون معنى لا إله إلا الله وشروطها ونواقصها ونواقضها.
وقد بلغ الجهل فيهم مبلغاً عظيماً حتى أنهم ليقعون في الحرام وهم لا يشعرون.
وبلغني أن بعض المساجد لو دخلتها لوجدت فيها الإخوة الذين يدَّعون أنهم من السلفيين إذا سألتهم عن فلان وفلان وجدتهم يتهافتون للإجابة عن السؤال ويحفظون المآخذ التي عليه بإتقان، وفي المقابل لو سألتهم في مسائل التوحيد أو الطهارة أو الصلاة أو الحلال والحرام أو عن مسائل معلومة من الدين بالضرورة تجدتهم يجهلونها تماماً.
فهؤلاء الموجهون يا ليتهم يتقون الله في المسلمين وينصحونهم بطلب العلم الشرعي وقراءة الكتب في اعتقاد أهل السُّنة والفقه والحديث والتفسير لعل الله أن ينفعهم بذلك، وكذلك يا ليتهم ينصحون المسلمين بعدم الانشغال في أمورٍ هُم في غنىً عنها خصوصا أنهم في غربة وبلاد كفر، ولقد بلغني أن هذه التحزبات سبّبت فرقة كبيرة بين الإخوة، بل وبين أفراد الأسرة الواحدة، بل وتسببوا بالتفريق بين الأزواج وبالفعل حصل طلاق بين بعض الأزواج، بل وتسببوا في ردة بعض المسلمين عن الاسلام- والعياذ بالله-.
ومنهم من بقي على دين الإسلام لكن ذهب إلى الفواحش والخمور، كل ذلك وأكثر إنما هو بسبب اشتغالهم بتكفير فلان أو تبديع فلان أو تفسيق فلان ، يجهلون أمور دينهم وينشغلون بفلان فيه كذا وفلان قيل فيه كذا وفلان لا شتسمعوا له، ويا ليت هجومهم على أعداء الإسلام أو أصحاب البدع الكبرى، كلا بل أكثر هجومهم وجهادهم ضد مشايخ الدعوة السلفية وأهل التوحيد والسُّنة لا سيما الذين يسافرون للدعوة والتعليم والتدريس، وهذه الأفعال لا شك أضرت الدعوة وشوهتها، ولا أدري إن كانوا يشعرون أو لا يشعرون.
قال العلامة شيخنا ابن عثيمين- رحمه الله-: (من أعظم البلوى أن يُزَيَّن للإنسان الفساد حتى يرى أنه مصلح؛ لقولهم: ﴿ {إنما نحن مصلحون ﴾ ... الإنسان قد يُبتلى بالإفساد في الأرض، ويخفى عليه فساده؛ لقوله تعالى: ﴿ ولكن لا يشعرون ﴾ ).انتهى من [تفسير سورة البقرة (٤٨/١)].
لا شك أن الله تعالى يوم القيامة سيسأل هؤلاء عن هذه الممارسات، لكن العجيب أنهم مسلمون ومؤمنون ومع ذلك تخوّفهم بلقاء الله ولا يخافون بل يصرون على أفعالهم أين هؤلاء من قوله تعالى ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ❊ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ❊ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: ٤-٦].
أسأل الله أن يهدينا وإياهم صراطه المستقيم. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.