يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فكم هو قبيح بالمرء أن يكون حريصاً على المدح والثناء مهتم بهذا الجانب يفرح بالتزكيات ويجمعها من هنا وهناك ويجددها بين الحين والآخر ويحث على نشرها ويوصي من حوله بإظهارها!!
وبالمقابل يغضب إذا انتقده أحد أو خطأه أخوه أو لاحظ عليه ملاحظةً أو استدرك عليه مسألة.
في الحقيقة هذا مرض خطير قد يكون عجباً أو غروراً أو كبْراً وقد يجعل صاحبه يشعر بأنه معصوم أو يكاد!!
ولقد توعد الله تعالى في كتابه بعض اليهود أو المنافقين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فكيف بعد هذا لا يتقي المسلم ربه ولا يخشى على نفسه من أن يكون من هذا الصنف الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا؟!
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون على أنفسهم من النفاق كما قال ابن أبي مليكة التابعي رحمه الله تعالى (أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاقَ على نفسه) أخرجه البخاري في صحيحه (٧).
وقال حنظلة رضي الله عنه: لقِيني أبو بكرٍ فقال: كيف أنت؟ يا حنظلةُ! قال قلت: نافق حنظلةُ. قال: سبحان الله ! ما تقول؟ قال قلتُ: نكون عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. يُذكِّرنا بالنار والجنةِ. حتى كأنا رأيَ عَينٍ. فإذا خرجنا من عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ. فنسِينا كثيرًا. قال أبو بكرٍ: فواللهِ! إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقتُ أنا وأبو بكرٍ، حتى دخلْنا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. قلتُ: نافق حنظلةُ. يا رسولَ اللهِ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "وما ذاك؟" قلتُ: يا رسولَ اللهِ! نكون عندك. تُذكِّرُنا بالنارِ والجنةِ. حتى كأنا رأىُ عَينٍ. فإذا خرجْنا من عندِك ، عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ. نسينا كثيرًا. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" والذي نفسي بيده! إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكر، لصافحتْكم الملائكةُ على فُرشِكم وفي طرقِكم. ولكن ، يا حنظلةُ! ساعةٌ وساعةٌ" ثلاثَ مراتٍ. [رواه مسلم رقم: 2750].
الله اكبر إذا كان هذا حال الصحابة ومنهم من بشر بالجنة فكيف بحالنا؟
بعض الناس اليوم يلقب نفسه ومع معه بالسلفيين الخلص من غير حياء ولا تردد ويظن لجهله أن عدم جزمه لنفسه بالسلفية الخالصة يستلزم الشك والريب!!
وهذا أكبر دليل على أن هذا المغرور لم يفهم السلفية أصلاً. فالسلفية أخص من الإسلام والإيمان والإسلام والإيمان كل منهما يزيد وينقص ويتفاوت كثيراً من شخص لآخر بل الإنسان نفسه يتفاوت إسلامه وإيمانه بين حين وآخر فكما لا يقول الإنسان عن نفسه بأنه مؤمن خالص الإيمان كذلك لا يقول عن نفسه سلفي خالص أو قح كما يحلو لبعضهم تسمية نفسه ومجموعته بذلك.
حقاً نعم نحن في زمن العجائب حتى أصبحت السلفية عشرين صنفاً أو يزيد وكل يدعي أن منتهى السلفية عنده. ولولا ستر الله الجميل على عباده لظهرت فضائح وفصائع لكل منا تنوء بؤلي العصبة.
يروى عن بعض السلف وكان قد اشتهر بالعبادة والصلاح فمرت به امرأة وقالت له: يا مرائي!! فقال لها: ما عرفني إلا أنت.
الله المستعان اليوم قد يقال لبعض الناس أقل من هذا بكثير فلا يقبل عتباً ولا نقداً ولا توجيهاً ولا نصيحةً لأن لسان حاله يقول بأنه الكامل المعصوم وأما لسان مقاله يقول بأنه أحد السلفيين الخلص الاقحاح الذي نال شرف تزكية فلان وفلان.
والواجب على المسلم الحذر الشديد أن يكون من الذين يحبون المدح والثناء ولا يقبلون سواه بل ويرعدون ويزبدون عند العتب واﻻنتقاد.
إن القلب إذا اعتاد على محبة مدح البشر وثنائهم تشرب العمل من أجل البشر وإذا خلص القلب من ذلك خلص للبارئ جل وعلا. فكم قصم التعود على سماع المديح من ظهور وكم قطع من أعناق!!
روى البخاري في صحيحه (2519) ومسلم (3000) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: مدح رجُلٌ رجلًا ، عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال، فقال "ويحك! قطعتَ عُنقَ صاحبِك. قطعتَ عُنُقَ صاحبِك" مرارًا" إذا كان أحدُكم مادحًا صاحبَه لا محالةَ، فلْيقلْ: أحسبُ فلانًا. واللهُ حسيبُه. ولا أُزكِّي على اللهِ أحدًا. أحسبُه، إن كان يعلمُ ذاك ، كذا وكذا" [واللفظ لمسلم].
ووجه كون ذلك قطع للعنق لأن المادح يبني بمدحه صنماً كبيراً في داخل الممدوح ممكن مع طول الزمان يعبده من دون الله تعالى، فيتحول بأعماله من عبادته الله وقصده وحده لا شريك له والإخلاص له إلى عبادة الذات وقصد المدح والثناء قيل في تعريف الإخلاص لله: (أن يكون مدح الناس لك وذمهم إياك سواء) الله المستعان.
واعلم اخي القارئ الكريم أن المدح إنما ابيح للضرورة أو الحاجة لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة).
وأيضاً لا يجوز أن يجزم المادح بالمدح لأنه لا يعلم إن كان الممدوح يستحق ذلك المدح أو لا يستحقه.
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: قوله (ولا أزكي على الله احداً) أي لا اقطع على عاقبة أحد ولا ضميره ، لأن ذلك مغيب عنا ولكن احسب واظن لوجود الظاهر المقتضي لذلك) انتهى.
يجب على المسلم ان يعمل لله تعالى ولا يبالي بالخلق ولا ينتظر تزكية من أحد (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) [النساء: 49]، والواجب على المسلم أن لا يعتمد على تزكية فلان وفلان، لأن فلاناً وفلاناً ليسوا بمعصومين في تزكياتهم ولا يعلمون الغيب فقد يُزكّون بناءً على ظاهر حال الشخص الذي قد يتملقهم ويتظاهر لهم بأنه على خير وعلى منهجٍ صحيح وقد يظهر خلاف ما يبطن، وكثير من الناس يظهر خلاف ما يبطن ويتبين على فلتات لسانه ما ابطنه في جلساته وفي دروسه وقديماً قيل (كل إناءٍ بما فيه ينضحُ) فإذا كان سلفياً حقاً فلتكن له عناية بطلب العلم وتدريسه لا سيما في التوحيد وعقيدة أهل السنة وفي التفسير المأثور وتكون له عناية بكتب الحديث كما عرف بذلك علماء السنة في كل زمان ومكان. فالسلفية براهين وليست أماني.
وأيم الله لو نظرنا في حال السلف وما كانوا عليه من علم وحرص على الأوقات وعمل وعبادة وجهد واجتهاد وجهاد وصدق وأخلاق وزهد وآداب وغير ذلك، أقول لو نظرنا في حال السلف وقارناه بحالنا لذبنا خجلاً وحياء من انتسابنا إليهم.
اليوم للأسف الشديد بعض الناس يلقب نفسه ومن معه ممن على شاكلته بالسلفيين الخلص ويقضي اكثر أوقاته في القيل والقال وتصنيف الناس وإدخال فلان في السلفية واخراج آخر منها، وهذا في الحقيقة من الإحداث في السلفية ما ليس منها.
فليراجع كل منا نفسه إن كان يرجو أن يكون سلفياً أو متبعاً للسلف حقاً، فليعتن بطلب العلم وحفظه وإتقانه والعمل به والدعوة إليه والتدريس والتعليم والتخلق بأخلاق السلف والتأدب بآدابهم والصبر على ذلك ولا يكتفي بالتزكيات وثناء فلان عليه وإعجاب فلان به، للأسف لقد أصبح بعض السلفيين لا همّ له سوى جمع التزكيات وتجديدها حتى أن بعضهم ينشر التزكية تحت عنوان (جديد) وكأن للتزكية تاريخ انتهاء أو ربما يقصد أنه مازال ثابتاً ما تغير ولا بدل تبديلاً ولا لعبت به الاهواء كما لعبت بغيره نسأل الله الهداية والسلامة.
كان في السابق يفعل ذلك جماعة التبليغ ونحوهم فكثير منهم يحمل تزكيات أو ثناء بعض المشايخ والعلماء ولا يقبل نصيحةً ولا توجيهاً. وسرعان ما يبادر فيقول: (العلماء قالوا فينا والعلماء زكونا وهم اعلم منكم ونقدكم لنا يقتضي الطعن بالعلماء)!! واليوم للأسف المنطق نفسه يستعمله بعض من يلقبون انفسهم بالسلفيين الخلص، ويستغلون التزكيات التي فيها شيء من الثناء عليهم ويُخفون عن المشايخ مسائل وحقائق يختلفون فيها مع من يحملون تزكيته.
ولقد سمعت أحدهم يقول عن نفسه: (وأنا بحمد الله معروف، ويعرفني المشايخ والعلماء وقد زكاني الشيخ فلان والشيخ فلان والشيخ فلان- ثم ختم كلامه فقال: -ولا أزكي نفسي) انتهى كلامه.
سبحان الله العظيم بعد ما زكى نفسه وذكر من زكاه ختم بقوله (ولا ازكي نفسي) فكيف تكون التزكية للنفس إن لم تكن هذه تزكية؟
والله كلامه يذكرني بما يفعله بعض الناس تجده يغتاب أخاه ويستطيل في عرضه وفي آخر كلامه يقول: ولا أريد أن اغتاب الناس لأني لا أحب الغيبة وليس هذا من عادتي! (إذا لم تستح فاصنعت ما شئت) [رواه البخاري ، رقم: 6120، عن عقبة بن عمرو بن ثعلبة أبي مسعود].
أخي القارئ الكريم لم انته بعد فتابعني في مقال قادم إن شاء الله تعالى، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.