رسالة لم يحملها البريد إلى أخي الكبير أبي يوسف حفظه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فلقد كتبت رسالة خاصة لأخي أبي يوسف، ثم بدا لي ان انشرها لعل الله تعالى ان ينفع بها من شاء من عباده وهذا نصها:
من سالم بن سعد الطويل الى أخي الكبير أبي يوسف حفظك الله واصلح لك النية والذرية.
لقد وصلتني رسالتك وصلك الله ووالديك برحمته الى رضوانه وجنته، التي ذُكِرَ فيها أعلى رواتب موظفي الدولة من الأول الى السابع على سبيل التفصيل، وذُكِرَ الموظف الفلاني يتسلم راتباً وقدره كذا وكذا، والبونص السنوي كذا وكذا، وعند التكليف يصرف له كذا وكذا كتعديل وضع وراتب 6 شهور مقدما قدرها كذا، وكل اجتماع ولو ساعة واحدة يستحق عليه كذا وكذا، وكل جلسة يحضرها يستحق عليها كذا وكذا، وكل سفرة بالخارج تعتبر مهمة خارجية يستحق عليها كل يوم بالخارج كذا وكذا، وجميع المشتريات مجاناً بحد أقصى كذا وكذا شهرياً وسيارتان مجاناً، وهاتفان مجاناً وسائقان وسكرتيران، وفي حال سفر من هو أعلى منه يتولى بالانابة ويستحق عن كل يوم كذا وكذا.
ثم جاء في الرسالة ذكر باقي الموظفين السبعة، ثم ختمت الرسالة بقول الكاتب (ولكم ملينا والله ملينا). انتهى مضمون الرسالة المنقولة التي انتشرت أخيرا.
وأقول وبالله استعين:
أولاً: الله أعلم عن مدى صحة ودقة المعلومات والأرقام المذكورة في الرسالة، فهي غير موثقة من جهة رسمية وانما مجرد نقولات مرسلة من غير سند وما أكثر ما ينقل اليوم من القيل والقال.
ثانياً: ما الفائدة المرجوة من نشر هذه الرسالة؟ والذي يظهر لي أنها لمجرد الاثارة، ولإشاعة البلبة لا غير.
ثالثاً: ان كثيراً من الناس لا همّ له سوى المادة والأموال، ومن أين جاءت؟ والى أين ذهبت؟ وكم اعطي فلان؟ وكم يملك فلان؟ ولا ينظر الى سائر المنكرات والفساد العقدي والأخلاقي المنتشر هنا وهناك، ولا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا الا ما اشرب من هواه، ولا يلتفت الى النقص في الدين في نفسه وأهله وبيته ومجتمعه.
رابعاً: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأثرة التي قد تكون عند بعض الولاة، وأمرنا بالصبر وأن نؤدي الذي علينا ونسأل الله الذي لنا.وهذا الموقف الشرعي النبوي عندما تحدث الأثرة، لا ان نلجأ الى التهويل والتهييج كما هو الحال اليوم عند بعض الناس.
وهذا ظاهر جلي بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري (3603) ومسلم (1843) عن ابن مسعود- رضي الله عنه- ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (انها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها) قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم).
وروى البخاري (3792) ومسلم (1845) عن أبي يحيى أسيد بن حضير- رضي الله عنه- ان رجلاً من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال: (انكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).
والأثرة هي: الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق.
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى في تعليقه على الحديث: (قوله وتسألون الذي لكم أي اسألوا الحق الذي لكم من الله، أي اسألوا الله ان يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، فانه عليه الصلاة والسلام علم ان النفوس شحيحة وأنها لن تصبر على من يستأثر عليهم بحقوقهم ولكنه عليه الصلاة والسلام أرشد الى أمر قد يكون فيه الخير، وذلك بأن نؤدي الذي علينا نحوهم من السمع والطاعة وعدم منازعة الأمر وغير ذلك ونسأل الله الذي لنا، وذلك اذا قلنا اللهم اهدهم حتى يعطونا حقنا، كان في هذا خير من وجهين. وفيه دليل على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه اخبر بأمر وقع، فان الخلفاء والأمراء منذ عهد بعيد كانوا يستأثرون بالمال، فنجدهم يأكلون اسرافاً، ويشربون اسرافاً، ويلبسون اسرافاً ويسكنون ويركبون اسرافاً، وقد استأثروا بمال الناس لمصالح أنفسهم الخاصة، ولكن هذا لا يعني ان ننزع يداً من طاعة، أو ان ننابذهم، بل نسأل الله الذي لنا ونقوم بالحق الذي علينا. وفيه أيضاً استعمال الحكمة في الأمور التي قد تقتضي الاثارة، فانه لا شك ان استئثار الولاة بالمال دون الرعية يوجب ان تثور الرعية وتطالب بحقها ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالصبر على هذا، وأن نقوم بما يجب علينا ونسأل الله الذي لنا… الخ كلامه القيم كما في شرح رياض الصالحين للحديثين (161- 162).
قلت: وهذا الموقف الشرعي النبوي للأسف قد ضرب به كثير من الناس عرض الحائط وكأنه لا يعنيهم أو غير مكلفين به بل أصبح منهم من يسخر بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسخر بمن يقول به ويدعو له وهذا أمر خطير جداً قد يزيغ قلب القائل فيبلغ مبلغاً لا يعلم مداه الا الله تعالى.
خامساً: هؤلاء الذين يحصلون على رواتب ومخصصات ومكافآت عالية، اما ان يكونوا قد أخذوها بحق أو اخذوها بغير حق، فان كانوا أخذوها بحق فما الذي يجعلنا نعترض عليهم ونشهر بهم؟ فقد يكون هذا من الحسد الذي نُهِينا عنه كما في حديث (لا تحاسدوا) رواه مسلم (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.واما ان كانوا أخذوا هذه الأموال بغير حق فلنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاهم به، لأنهم سيحاسبون على هذه الأموال يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كما جاء في حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ) رواه الترمذي، وصححه الألباني في «صحيح الترمذي» (2417).
سادساً: لقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ننظر الى من هو دوننا لا الى من فوقنا لكي لا ننسى فضل الله علينا ولا نغفل عن شكر نعمه الكثيرة الظاهرة والباطنة ولا نزدريها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انظروا الى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا الى من هو فوقكم، فهو أجدرُ ألا تزدروا نعمة الله عليكم) رواه مسلم (2963). وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذا نظر أحدكم الى من فضّل عليه في المال والخَلق، فلينظر الى من هو أسفل منه ممن فُضل عليه) رواه مسلم (2963) عن أبي هريرة.
سابعاً: ينبغي للمسلم ان يتأمل فيما اعطاه الله عز وجل مما هو أعظم من المال، فيحمد الله ان جعله الله مسلماً بينما غيره كافر، وجعله الله مؤمناً بينما غيره ملحد، وجعله الله موحداً بينما غيره مشرك، وجعله الله سنياً بينما غيره مبتدع، وجعله الله مستقيماً بينما غيره فاسق أو فاجر فكم اعطاك الله من فضله بينما حُرِمَ غيرك من ذلك وكم عافاك الله من آفة ابتلي غيرك بها.
ثامناً: ان كثيراً من الناس ينظر اليك والى راتبك ودخلك الشهري، كما تنظر الى غيرك، فيقول عندك راتب وليس لي راتب، أو راتبك عشرة اضعاف راتبي، وعندك علاوة زوجية وعلاوة أولاد وبدلات كذا وكذا وليس لي مثلك، وهكذا ما من انسان الا وفي الناس من هو دونه أو اعلى منه، والذي ينبغي ان نتطلع اليه هو مرضاة الله بالجد والاجتهاد في الأعمال الصالحة قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} [الكهف]، ولننظر الى أهل الاجتهاد في الطاعة فننافسهم ونلحق بهم ما استطعنا الى ذلك سبيلاً.
تاسعاً: لقد شرع الله لنا من الأعمال الصالحة التي نكسب فيها من الأجر والحسنات ما يملأ الأرض والسموات كالذكر والاستغفار وقراءة القرآن، واسباغ الوضوء والمشي الى المساجد وانتظار الصلاة، واقامتها، والصدقة والصيام والحج والعمرة، وغير ذلك مما هو خير من الدنيا وما فيها.فلننظر في أنفسنا كم فرطنا ولنتحسر على ما ضيعنا ونندم على ما فاتنا ولنتدارك ما بقي من اعمارنا.
عاشراً: ان الذي ينظر في أموال الناس غالباً ما يفوته التلذذ بطعم العبادة ويشعر بانقباض القلب والقلق النفسي بخلاف من لا يلتفت الى ما في أيدي الناس.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، اللهم حبب الينا الايمان وزينه في قلوبنا، وكره الينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.