ينتقدون وينكرون التحزب والحزبية وهم متحزبون!!
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن التعصب والتحزب مرض نتن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (دعوها فإنها منتنة) أخرجه البخاري (٤٩٠٥)، وقد يظهر من ينتقد التحزب أو الحزبية وينكر بشدة على الحزبيين وقد يحاربهم ويبدعهم ويفاصلهم ويعادي من لا يبدعهم ويوالي على تبديعهم، ثم يبدأ هو ومن معه يتحزبون ويتعصبون، وتبدو الحزبية فيهم ضعيفة وما تزال شيئاً فشيئاً حتى تقوى وتصبح أشد من غيرها بكثير !!!
وهذه الحقيقة التي لا يستطيع كثير من الحزبيين استيعابها ولا غرابة في ذلك، فليس بالضرورة كل مريض يشعر بمرضه، فمثلاً مرض النفاق هو أشد الأمراض ومع ذلك لا يشعر به المنافقون، كما قال تعالى : ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ❊ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ❊ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) [البقرة:١٠-١٢ ]، وكم من إنسان يحسن الظن بنفسه الأمارة بالسوء ويثق بها وهي ليست أهلاً للثقة، فيحسب أنه يحسن صنعاً وهو بعيد عن الهدى.
وكثير من الناس لم يستوعب هذا الحقيقة، كيف يتحزب ويُتهم بالحزبية وهو الذي طالما حاربها وبدع أهلها، فيا ليت شعري وما المانع شرعاً أو عقلاً أو عرفاً أن يقع الإنسان فيما نهى عنه؟
وإليك بعض الأدلة التي تدل على ما أقول :
١- قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ) [النساء: ١٣٧ ] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) [آل عمران: ٩٠] فإذا كان الإنسان ممكن أن يؤمن ثم يكفر ثم يؤمن ثم يكفر ثم يزداد كفراً فمن باب أولى أنه ممكن يترك التحزب وينبذه ويحاربه ثم يتحزب ويزداد تحزباً ويفوق غيره ويسبقه إلى ما كان يعيبه عليه.
٢- لقد توعد الله من يرتد عن دينه بالخلود في النار فقال تعالى : (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: ٢١٧ ]، وبالإجماع أن الردة -عافانا الله منها- معلومة مشهورة أحكامها، ولقد ارتد بعض من أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج البخاري (٣٤٢٢) ومسلم (٢٧٨١) عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجلٌ نصرانيًّا فأسلمَ، وقرأَ البقرةَ، وآلَ عمرانَ، فكان يَكتُبُ للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبْتُ له، فأماتَه اللهُ فدفنوه، فأصبحَ وقد لَفِظَتْه الأرضُ! فقالوا: هذا فعلُ محمدٍ وأصحابِه لَمَّا هربَ منهم، نَبَشُوا عن صاحبِنا فأَلْقُوه. فحفروا له فأعمقوا، فأصبحَ وقد لَفِظَتْه الأرضُ! فقالوا: هذا فعلُ محمدٍ وأصحابِه ، نَبَشُوا عن صاحبِنا لما هربَ منهم فأَلْقُوه. فحفروا له وأعمقوا له في الأرضِ ما استطاعوا ، فأصبحَ وقد لَفِظَتْه الأرضُ، فعلموا أنه ليسَ مِن الناسِ فأَلْقُوْه) فهل من معتبر؟ أقول: ولا يخفى على أحد أن الإنسان قد ينتكس بعد هدىً، فما المانع أن يتحزب من كان من أشد الناس إنكاراً للحزبية؟!
٣- كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر في دعائه من قوله : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) أخرجه الترمذي (٣٥٢٢)، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أقسم قال : (لا ومقلب القلوب) أخرجه البخاري (٦٦٢٨)، فهذا يدل على أن منكر التحزب قد ينقلب ويقع في التحزب كما أن المسلم قد ينقلب ويقع في الكفر.
٤- وها هو إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام دعا إلى التوحيد ونبذ الشرك وحطم الأصنام وكان يقول في دعائه : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إبراهيم: ٣٥]، فمن يأمن على نفسه بعد إبراهيم عليه السلام؟ فإذا الذي حطم الأصنام دعا الله تعالى أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام فلماذا نستبعد أن من دعا إلى تحطيم الحزبية لا يقع فيها ويبتلى بها؟!
٥- وذكر الله تعالى في كتابه عن نبيه شعيب عليه السلام أنه قال لقومه : (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) [هود :٨٨]، فدل ذلك على أن من الناس من قد يخالف ما ينهى الناس عنه، فكم من داعٍ إلى التجرد من التحزب وهو غارق فيها حتى النخاع!.
٦- وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ❊ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف :٢-٣]، وهذا دليل ظاهر الدلالة على أنه من الممكن جداً أن من الناس قد ينهى عن التحزب وهو حزبي محترق!!
٧- وأخرج مسلم في صحيحه (٢٩٨٩) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول " يُؤتى بالرجل يومَ القيامةِ . فيُلقى في النارِ. فتندلِقَ أقتابُ بطنِه. فيدورُ بها كما يدورُ الحمارُ بالرَّحى. فيجتمع إليه أهلُ النارِ. فيقولون: يا فلانُ! مالَكَ؟ ألم تكن تأمرُ بالمعروفِ وتنهى عن المنكرِ؟ فيقول: بلى، قد كنتُ آمُرُ بالمعروفِ ولا آتِيه، وأنهى عن المنكرِ وآتِيه". وهذا الحديث الصحيح الصريح يدل بوضوح أن من الناس من ينهى الناس عن أمر من الأمور ويأتيه، ولقد وُجد اليوم من ينهى الناس عن الحزبية وهو متشبث بها وعاض عليها بالنواجذ.
أخي القارئ الكريم، هذا ما يسر الله تعالى لي جمعه من النصوص الدالة على أن ليس بالضرورة أن من نهى التحزب وحارب الحزبية مبرَّأ منها ولن يقع في الحزبية أبداً، كلا والذي نفسي بيده، فلقد رأيت ورأى غيري الحزبية المقيتة النتنة عند بعض الناس أشد من حزبية غيرهم، على نحو قول القائل (إن لم تكن معنا فأنت ضدنا)، وخفي عليهم جداً الفرق بين المنهج السلفي والتحزب البغيض، والذي زاد في مقته كونهم تحزبوا باسم السلفية، فسفهوا العلماء وسبوا طلبة العلم وترفعوا على المسلمين واعجبوا برأيهم ونبذوا كل نصيحة وناصح.
وقد وضّح شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى حقيقة حزبية هؤلاء لما قيل له : (نريد أن نعرف ما هي السلفية كمنهج؟، وهل لنا أن ننتسب إليها؟، وهل لنا أن ننكر على من لا ينتسب إليها؟، أو يُنكِر التسمي بكلمة (سلفي) أو غير ذلك؟)
فأجاب رحمه الله تعالى: (السلفية: هي اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم هم الذين سلفونا وتقدموا علينا، فاتباعهم هو السلفية وأما اتخاذ السلفية كمنهج خاص ينفرد به الإنسان، ويضلل من خالفه من المسلمين ولو كانوا على حق، واتخاذ السلفية كمنهج حزبي، فلا شك أن هذا خلاف السلفية.
السلف كلهم يدعون إلى الاتفاق والالتئام حول كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يضللون من خالفهم عن تأويل، اللهم إلا في العقائد، فإنهم يرون أن من خالفهم فيها فهو ضال، أما المسائل العملية فإنهم يخففون فيها كثيراً لكن بعض من انتهج السلفية في عصرنا هذا صار يضلل كل من خالفه ولو كان الحق معه، واتخذها بعضهم منهجاً حزبياً كمنهج الأحزاب الأخرى التي تنتسب إلى دين الإسلام، وهذا هو الذي يُنكر ولا يمكن إقراره، ويقال: انظروا إلى مذهب السلف الصالح ماذا يفعلون منهجهم وفي سعة صدورهم في الخلاف الذي يسوغ فيه الاجتهاد، حتى إنهم كانوا يختلفون في مسائل كبيرة، وفي مسائل عقدية ومسائل عملية، فتجد بعضهم مثلاً ينكر أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وبعضهم يقر بذلك، وترى بعضهم يقول: إن التي توزن يوم القيامة هي الأعمال، وبعضهم يرى أن العامل هو الذي يوزن، وبعضهم يرى أن صحائف الأعمال هي التي توزن، وتراهم أيضاً في مسائل الفقه يختلفون كثيراً، في النكاح والفرائض والبيوع وغيرها، ومع ذلك لا يضلل بعضهم بعضاً.
فالسلفية بمعنى أن تكون حزباً خاصاً له مميزاته ويُضلل من سواهم فهؤلاء ليسوا من السلفية في شيء، السلفية اتباع منهج السلف عقيدةً وقولاً وعملاً وائتلافاً واتفاقاً وتراحماً وتواداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
انتهى كلامه رحمه الله من [ لقاء الباب المفتوح (رقم٥٧) ]
أخي القارئ الكريم هذا نقل مفيد نافع بإذن الله تعالى أذكره لك عن الشيخ الدكتور صالح الفوزان حفظه الله لعل الله أن ينفعك به، قال وفقه الله :(فالذين ينتسبون إلى الدعوة اليوم فيهم، مضلِّلون يريدون الانحراف بالشباب وصرف الناس عن الدين الحق وتفريق جماعة المسلمين والإيقاع في الفتنة فليس العبرة بالانتساب أو فيما يظهر بل العبرة بالحقائق وبعواقب الأمور والأشخاص الذين ينتسبون إلى الدعوة يجب أن ينظر فيهم أين درسوا؟ ومن أين أخذوا العلم؟ وأين نشأوا؟ وما هي عقيدتهم؟ وتنظر أعمالهم وآثارهم في الناس وماذا أنتجوا من الخير؟ وماذا ترتب على أعمالهم من الإصلاح؟ يجب أن تُدرس أحوالهم قبل أن يغتر بأقوالهم ومظاهرهم هذا أمر لا بد منه خصوصاً في هذا الزمان الذي كَثُرَ فيه دعاة الفتنة وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم دعاة الفتنة بأنهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.) انتهى من كتاب [ الإجابات المهمة (٤٧-٤٨) ]
أخي القارئ الكريم تابعني في المقال القادم في الرد والتحذير من الحزبية المقيتة بالحجة والبرهان، لا بالسب والشتم والبهتان، وأرجو من كل أخ أو ابن أو طالب أن لا يجاري هولاء بأسلوبهم المتبع، بل ولنجاهدهم بالصبر وحسن الخلق والصفح والإعراض، ولنشتغل عنهم بما ينفعنا من العناية بالقرآن، وطلب العلم النافع، والعمل الصالح والمحافظة على الصلوات، وبر الوالدين والإحسان إلى الخلق، ولندعوا لهم بالهداية والاستقامة.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.