موقع الشيخ
حفظه الله
سالم بن سعد الطويل

واعظ المقبرة لا يحكم بما أنزل الله

10 صفر 1436 |

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فلقد خلق الله تعالى الجن والإنس لعبادته، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات: ٥٦]، ومن حكمته جل وعلا أنه شرع لعباده الشرائع وأنزل الأحكام ليتعبدوه بها، فلم يترك الناس سدى لا يُؤمَرون ولا يُنهَون، ولم يأذن لهم أن يتعبدوه تبارك وتعالى بأهوائهم وأذواقهم وأفكارهم وعقولهم وعواطفهم وحماستهم، وإنما أرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وهداة مهتدين، أرسلهم بالبينات وأنزل معهم الكتب، كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [سورة الحديد: ٢٥].

وكان آخرهم وخاتمهم وخيرهم وأكملهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [سورة التوبة: ٣٣]، وأوجب الله تعالى على الجن والإنس طاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه وتحكيم شرعه، بلا استثناء، عربهم وعجمهم، رجالهم ونساءهم، كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم،حكامهم ومحكوميهم، والأحرار والمماليك، والملوك والرعية، فالواجب على جميع الجن والإنس أن يمتثلوا أمر الله ورسوله، ويحكِّموا شرع الله فيهم، في كل صغير وكبير وفي كل زمان ومكان ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

بخلاف ما قد يظن بعض الناس أن الحكم بما أنزل الله خاص بالحاكم، فيصب جام غضبه عليه ويكفره، ويحرض الناس عليه، ويدعو إلى الخروج عليه والافتئات على أمره، ويجرئ الناس ضده.

لا شك أن هذه الأفعال ليست من دين الله تعالى الذي أرسل به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، بل هذه من أفعال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة ومن تفرع منهم وتربى في أحضانهم.

لقد اعتاد أحد الوعاظ بوعظ الناس يومياً - تقريباً - عند المقابر بموعظة غير حسنة، ويجادل المسلمين بالتي هي أسوأ، وقد زين له الشيطان سوء عمله ويحسب نفسه أنه يحسن صنعاً، ولبيان ذلك أقول:

أولاً: ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مما أنزله الله تعالى في كتابه الوعظ عند القبور كما يفعل بعض الناس، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم، وقد سئل شيخنا محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى عن حكم الموعظة بصفة دائمة على القبر، فقال: (الذي أرى أنها خلاف السنة؛ لأنها ليست على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أنصح الخلق للخلق، وأحرصهم على إبلاغ الحق، ولم نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعظ على القبر قائماً فيتكلم كما يتكلم الخطيب أبداً، إنما وقع منه كلمات، مثل: ما وقع منه حين انتهوا إلى القبر ولما يلحد، فجلس عليه الصلاة والسلام وجلس الناس حوله، فجعل ينكُتُ بمخصرة معه بالأرض ويحدثهم ماذا يكون عند الموت، وهذه ليست خطبة، ما قام خطيباً في الناس يعظهم ويتكلم معهم أبداً.

ثانياً: حينما كان قائماً على شفير القبر قال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلا نَدَعُ العَمَلَ ونَتَّكِلُ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».

وأما أن يُتَّخَذ هذا عادة، كلما دُفِن ميتٌ قام أحد الناس خطيباً يتكلم، فهذا ليس من عادة السلف إطلاقاً، وليُرْجَع إلى السنة في هذا الشيء، وأخشى أن يكون هذا من التنطُّع؛ لأن المقام في الحقيقة مقام خشوع وسكون وليس مقام إثارة العواطف، ومواضع الخطبة هي المنابر والمساجد كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل هذا، ولا يمكن أن نستدل بالأخص على الأعم.

فلو قال قائل: سنجعل حديث علي حينما وقف على شفير القبر، وكذلك الحديث الآخر حينما جلس ينتظر أن يلحد القبر وتحدث إليهم، لو قال قائل: نريد أن نجعله أصلاً في هذه المسألة.

قلنا: لا صحة لذلك؛ لأنه لو كان أصلاً في هذه المسألة لاستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما تركه كان تركه هو السنة). انتهى كلامه رحمه الله، لقاء الباب المفتوح، شريط٣.

ثم هذا الواعظ وأمثاله يدعون الناس إلى تحكيم شرع الله تعالى، فاسألوهم إن كانوا للحق يتبعون : هل مما شرعه الله تعالى الموعظة والخطابة عند القبور كما يفعل؟

لقد أكمل الله سبحانه وتعالى دينه الإسلام وتم به علينا نعمته ورضي لنا الإسلام ديناً، كما قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [سورة المائدة: ٣]، فهل ما يفعل هذا الواعظ من دين الله جل وعلا ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلا والذي نفسي بيده، فإن كان صادقاً فيما يزعم فليأت بالبرهان، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [سورة البقرة: ١١١]، فإن عجز عن ذلك فلماذا لا يحكم بما أنزل الله تعالى ويترك هذه البدعة؟!

أليس أولى به أن يحكم بما أنزل الله تعالى على نفسه قبل أن يطالب الآخرين؟!

ثانياً: من أحيا بدعة أمات بمقابلها سنة، كما جرت العادة في ذلك، فمن سنة النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارة المقبرة السلام على أهل القبور والدعاء والاستغفار لهم، واتباع الجنائز والإحسان إلى الميت بتغسيله وتكفينه ودفنه، فيوضع في اللحد ويقال باسم الله على ملة رسول الله، ويشارك المشيعون بالدفن، ثم يقال: سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يُسأل.

هذا من حق الميت على إخوانه المشيعين، فلا يجوز إشغالهم بسماع خطبة بصوت عال على مكان مرتفع، فهذا الفعل لهو أقرب إلى الإثم منه للأجر.

فلو قال قائل: أليس الوعظ والتذكير بالله أمراً محموداً وفعلاً مشكوراً؟ فكيف يكون أقرب إلى الإثم منه للأجر؟!

قلنا: اقرأ - يا رعاك الله - ما رواه البيهقى في «سننه» بسند صحيح، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يُكْثِرُ فِيهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَنَهَاهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَى الصَّلَاةِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ يُعَذِّبُكَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ».

وعلق الشيخ الألباني رحمه الله تعالى على هذا الأثر في الإرواء (٢ / ٢٣٦) فقال: (وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوى على المبتدعة الذين يستحسنون كثيراً من البدع باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهم في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك).

ثالثاً: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، متفق عليه: رواه البخاري برقم (٧١)، ومسلم برقم (١٠٣٧)، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وقديماً قيل: «لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ»، فهذا الواعظ يزعم الوعظ وهو لا يحسنه، ويزعم تبليغ العلم وهو لم يتعلمه فضلاً عن أن يُعلمه، وكما هو معلوم ومقرر أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالمعروف عنه بأنه لم ينشأ على العلم في صغره ولا في شبابه، فلما كبر سقط بأيدي بعض المبتدعة من الخوارج التكفيريين، ولقنوه الباطل فظن أنه على الحق المبين، وأن الحق كله في تلك الكلمتين التي حفظهما ويكررها كل يوم في المقبرة!

فلا يعرف معنى التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وقصرَ التوحيدَ في زاوية ضيقة، ويستدل بالآيات على غير مراد الله تعالى، ويقول على الله بلا علم.

رابعاً: هذا الواعظ يتكلم ولا يسمع، وينصح ولا يقبل النصيحة بتاتاً، بل غير مستعد لسماع كلمة واحدة من غيره، فأين هو من قول الله تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾ [سورة العصر: ٣]؟! أي وصى بعضهم بعضاً، وما سُمي التناصح تناصحاً - على وزن «تَفاعل» - إلا لأنه يكون من الطرفين، أي يَنصَح ويُنصَح، أما أن يَنصح الناس ولا يقبل النصيحة فهذا تناقض ظاهر، بل هذا الواعظ حتى لو أراد أحد أن يذكره بآية من القرآن أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقبل منه!

فهذا غير مقبول منه ولا معقول!

خامساً: أسلوبه فيه شدة وغلظة مفرطة، فلا يتحمل كلمة من صغير ولا كبير، فلا يكاد يوجه له أحدٌ كلمةً إلا وانفجر في وجهه، ومثل هذا لا يصلح للدعوة إلى الله، فلقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [سورة آل عمران: ١٥٩]، وقال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [سورة النحل: ١٢٥].

هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي هو صلوات ربي وسلامه عليه - الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [سورة القلم: ٤]، فكيف بمن دونه من أمثال واعظ المقبرة الذي يحمل عصا بيده فما أن يكلمه أحد بكلمة إلا وأشار بها عليه ويكاد يضربه بها؟!

هذا والذي نفسي بيده لا يصلح للنصيحة، بل هو محتاج إلى نصيحة، وواجب عليه أن يقبل النصيحة ولا يتكبر عليها.

سادساً: كثيراً من الأحيان ما يصل بعض المشيعيين متأخرين وقد فاتتهم صلاة الجنازة، فيصلون على الجنازة بعد دفنها، وهذه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا الواعظ مستمراً بالكلام فيشوش على المصلين ويحرم الأموات من الدعاء لهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

سابعاً: واعظ المقبرة المشار إليه انكشف أمره لكثير من الناس، بأنه قد اتفق مع بعض الناس، وقد يكونون من المرتزقة يأتي بهم بالأجرة - والله أعلم - فيقفون أمامه يومياً ليسمعوا الكلام نفسه!

فإذا أسكته أحد صرخ عليه وقال: «يا أخي إن كنت لا تريد تسمع فغيرك يريد يسمع، ثم يسألهم، هل تريدون تسمعون؟ فيجيبونه: نعم نعم أكمل أكمل!!».

فلو كانوا صادقين - هو وإياهم - ويرغبون بالسماع فلماذا لا يذهبون وإياه بعيداً عن القبور ويتركون المشيعين يدفنون موتاهم ويدعون لهم؟!

سبحان الله الذي لا تخفى عليه خافية!!

ثامناً: واعظ المقبرة إذا انتهى من كلامه رفع صوته مزكياً نفسه فيقول: «لا أريد منصباً، ولا أريد أن أكون وزيراً، ولا أريد مالاً»، سبحان الله وهل الذين أول من تسعر بهم النار يريدون منصباً أو مالاً؟!

فلقد روى مسلم في «صحيحه» برقم (١٩٠٥)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»، [وزاد الترمذي - رحمه الله تعالى - في «جامعه»: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»]، فهؤلاء لم يطلبوا جاهاً ولا مالاً، وإنما طلبوا مدح الناس وثناءهم عليهم، فيا ليت يتنبه لهذا إن كان من الصادقين.

تاسعاً: واعظ المقبرة لبسه وشكله يختلف عن عامة الناس الذين في المقبرة، ويحمل بيده عصا وأحياناً خيزرانة، في بلد لم يعتاد أهله على حمل العصا أو الخيزرانة بهذه الطريقة، فقد يكون هذا من الشهرة، وقد روى أبو داود في «سننه» (٤٠٢٩)، والنسائي في «الكبرى» (٩٤٨٧)، وابن ماجه في «سننه» (٣٦٠٦)، من طريق شريك، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ».

عاشراً: واعظ المقبرة يرفع صوته لغير حاجة، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [سورة لقمان: ١٩]، فيُسمع صوته من بعيد «عزوا إخوانكم، عزوا إخوانكم»، مع أن عدم التعزية ليس منكراً فلا يحتاج الأمر إلى رفع الصوت بتلك الطريقة، ثم يشير إلى الناس بالعصا بطريقة قد تكون مهينة لهم، والناس يتضايقون من صوته، وإشارته لهم بالعصا، لكنهم يسكتون.

أما هو فيكاد يكون عديم الإحساس، فالواجب عدم السكوت عنه حتى يرتدع، والواجب عدم الخوف من صوته المرتفع، حتى لا يتمادى أكثر مما تمادى فيه من إزعاج واعتداء على الناس، لا سيما موظفو البلدية الذين في المقبرة، فقد آذاهم كثيراً وللأسف الشديد فلا نكاد نجد أحداً ينصفهم منه.

ولو كان صادقاً في دعوته فليذهب إلى أصحاب الشأن وليدلي بنصيحته لهم ولينكر عليهم ما يراهم منكراً وليوسع عن المسلمين ويكف شره عنهم، وليحكم بما أنزل الله تعالى قبل أن يطالب غيره بذلك، فلا يجوز له أذية المسلمين، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾ [سورة الأحزاب: ٥٨]، ولا سيما أولياء الميت فقد جاءهم ما يشغلهم عن كلامه المكرر وغير المؤصل.

حادي عشر: واعظ المقبرة يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم حيث يعظ الناس يومياً تقريباً، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه أحياناً، كما روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما»، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».

ليت شعري! هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظته أكمل موعظة فيها الهدى والنور والوحي المبين والعصمة، وكما أن الصحابة كانوا على ما كانوا عليه من الإيمان واليقين ومع ذلك يتخولهم بالموعظة مخافة السآمة، وأكاد أجزم أن واعظ المقبرة لو قال له قائل لا تكرر كل يوم موعظتك لبادر وكفر من نصحه أو رماه بالنفاق!

نسأل الله العافية.

اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقالات