هل للسلفيين قيادة مركزية وتنظيم عالمي؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن أكثر الدعوات الشرعية أو الفرق بجميع طبقاتها ودرجاتها وما فيها من حق وباطل وهدى وضلال، كالتبليغ والإخوان المسلمين والسرورية والقاعدة بفروعها وحزب التحرير وغيرها - وشهرتها تغني عن عدها وسردها -، أقول: هذه الدعوات غالباً أو دائماً ما يكون لها قيادة مركزية ومجالس شورى، وآمر ومأمور، وبيعات سرية أو علنية، أو معاهدات تؤخذ من أتباعها، وسمع وطاعة، وميزانيات مالية، وترتيب وتنسيق وتخطيط، وعلاقات وتحالفات واتفاقيات، بل ومنهم من يصرح بأن هذا الترتيب والتنظيم لا بد منه لسير العمل الجماعي، لا سيما في العصر الحديث والسياسة العامة والعولمة، فالضعيف لا وجود له ولا بقاء، والأقلية غالباً ما تُسحق وتُبتلع.
وما زالت هذه الأطروحات تُقَرَّرُ وتُدَرَّسُ حتى تأثر بذلك بعض السلفيين، وأخذوا يتشبهون أو يقلدون تلك الدعوات، فحذوا حذو غيرهم، وتحزبوا ونظموا وتحالفوا ونسقوا، فعظمت البلية وضاعت الهوية، فأصبح من الصعوبة بمكان أن تعرف السلفي بهويته، والمعروف بما يمتاز به من العقيدة الصحيحة والعناية بالتوحيد والتمسك بالسنن والهدي النبوي والسمت المحمود، ونسوا أو غفلوا أو جهلوا أن الله قد نظمنا بشرعه القويم ودينه العظيم وصراطه المستقيم، كما قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: ١٨-١٩]، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: ٣].
وفي الحقيقة إن السلفيين ليسوا بحاجة إلى تنظيم وقيادة مركزية، فأحكام الإسلام تقودهم وتنظمهم، ومن تأمل وجد ذلك واضحاً جلياً، فأحكام الإسلام كلها تنظيم، ابتداءً من توحيد الله رب العالمين، فالرب جل وعلا واحد لا شريك له في أفعاله، فهو الخالق لكل شيء وهو مالك الـمُلك والمدبر لكل شيء وحده، لا شريك له، قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: ٢]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: ٦٢]، وقال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: ٥٤]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ﴾ [الرعد: ٤١]، والله هو الإله الحق المستحق للعبادة، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، كما قال تعالى: ﴿ وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: ١٦٣]، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: ١٨٠]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ ﴾ [النحل: ٦٠]، وقال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى : ١١]، وكذلك نظم الله لعباده أوقاتهم وأعمالهم، ويظهر ذلك جلياً فيما شرع لهم من أوقات الصلاة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴾ [النساء: ١٠٣]، ورتب أحكامها، وكذلك الصيام، قال تعالى: ﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: ١٨٥]، وفصل أحكامه، وكذلك الحج، قال تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ [البقرة: ١٩٧]، وفصل أحكامه، ونظم الله تعالى لعباده معاملاتهم، فأحل الحلال وحرم الحرام، ونظم لهم عقودهم، كعقود المعاوضات وعقود التبرعات وعقود الشركات وغيرها، ونظم الله تعالى لعباده علاقاتهم الاجتماعية، فشرع لهم بر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار وحسن المعاشرة بين الزوجين، وشرع لهم أحكاماً عظيمة فيما يتعلق بالزواج والطلاق والخلع والفسخ والرضاع والميراث والوصايا والولاية، ونظم لهم نظام المنازعات كالقضاء والشهادات، وشرع لهم توقير العلماء واحترام الكبار ورحمة الصغار، ونظم الله لعباده فيما شرع لهم من طاعة ولاة الأمور والصبر عليهم والنصيحة لهم، ونظم لعباده أحكام الحرب والسلم والهدنة والصلح والمعاهدات والجوار، ونظم الله لعباده أخلاقهم فأمر ورغب بالصدق والحلم والأناة والكرم والعفو والأمانة والوفاء بالعهد والصلة وحفظ اللسان وغير ذلك، ونهاهم عن ضد ذلك من الأخلاق الرديئة، كالكذب والخيانة والشح والبخل والغدر والنفاق والغيبة والنميمة والقطيعة، وشرع لهم آداباً لطعامهم وشرابهم ونومهم وصحتهم وجلستهم وإقامتهم وسفرهم، وشرع لهم في هذا الباب ما لا يكاد يحصى إلا بجهد كبير، بل رب العالمين نظم لعباده فيما شرع لهم أحكاماً تتعلق بالبهائم والحيوانات، بل وبما يتعلق بالجمادات، فالمسلمون لا يحتاجون إلى تشريعات ولا تنظيمات يحدثها البشر، وإنما يحتاجون إلى أن يتفقهوا في دينهم ويمتثلوا أمر الله ورسوله.
وأقرب عباد الله تعالى إلى الله وأحبهم إليه وأكرمهم عنده أتقاهم، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: ١٣]، وهذا الميزان هو الذي يجب أن يعتمد بين المسلمين، فالحب والبغض، والقرب والبعد، والموالاة والمعاداة، تكون بينهم فبقدر ما يكون عند العبد من التقوى والاستقامة والإحسان والامتثال لأمر الله ورسوله فيما يتعلق بحق الخالق وحق المخلوق.
ولقد أفسدت الحزبية والعصبية سَلَفِيَّةَ كثير من السلفيين، وفرقتهم وشتتتهم بعد ما كانوا يعيبون على غيرهم، والبلية الكبرى أن منهم من يظن أنه لا حزبية عنده وهو منغمس فيها ويمارسها حتى النخاع، فالحزبية مرض كسائر الأمراض لا يستطيع أحد يزعم أنه مبرأ منها، أو لا يمكن أن تصيبه أبداً ما دام حياً، ورب العزة والجلال يقول: ﴿ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [الروم: ٣١-٣٢]، فكيف ينهانا ربنا عما لا يمكن أن نقع فيه؟!
فإن قال قائل: فما المخرج والخلاص من التحزب والحزبية؟
فالجواب: أن نتجرد في عبادتنا لله وحده، لا إله إلا هو، ونتجرد في متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «فَإِنَّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالسُّنَّةِ لَا يَكُونُ مَتْبُوعُهُمْ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى» [مجموع الفتاوى (٣ / ٣٥٤)].
وكثير من الناس من حيث يشعر أو لا يشعر عنده نقص في هذين الأصلين، قليل أو كثير، ولو زعم أنه سلفي أو سني ليس له مثيل على وجه الأرض من الأحياء لكن ربما بعض الأموات!!
فأين نحن من قول شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله: «وَالنُّفُوسُ مَشْحُونَةٌ بِحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرِّئَاسَةِ بِحَسَبِ إمْكَانِهَا، فَتَجِدُهُ يُوَالِي مَنْ يُوَافِقُهُ عَلَى هَوَاهُ، وَيُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهُ فِي هَوَاهُ» [مجموع الفتاوى (١٤ / ٣٢٤)]؟!
إن سر قوة السلفيين تكمن في عدم تحزبهم، وليس عدم التحزب معناه التفرق والتناحر ومحاربة بعضهم بعضاً، كلا والذي نفسي بيده، وإنما معناه التمسك بالكتاب والسنة واتباع سلف الأمة من غير تعصب لشخص بعينه، ينصب عليه الولاء والبراء، فما ضر السلفية والسلفيين شيء مثل التحزب والتعصب الذي تسرب إلى كثير من السلفيين من حيث لا يشعرون، وليس غريباً ولا مستغرباً ولا بعيداً ولا مستبعداً أن يصاب الطبيب بالمرض الذي طالما عالج الناس منه، بل ربما يموت بسببه، وهذا ما لم يستوعبه كثير من الناس، فيظن بعضهم أن داء الحزبية ومرض العصبية لا ولم ولن يصبهم أبداً، وكأن لهم براءة في الزبر، وقد يكونون غارقين في الحزبية وهم لا يشعرون، والله المستعان.
وتأمل أخي القارئ الكريم كلام شيخ الإسلام الذي يجسد فيه هذه الحقيقة، فيقول: «وكثير من الناس يزن الأقوال بالرجال، فإذا اعتقد في الرجل أنه معَظَّم قَبِل أقوالَه وإن كانت باطلةً مخالفةً للكتاب والسنة، بل لا يصغي حينئذ إلى مَنْ يردّ ذلك القول بالكتاب والسنة، بل يجعل صاحبه كأنه معصوم، وإذا ما اعتقد في الرجل أنه غير معَظَّم ردَّ أقوالَه وإن كانت حقًّا، فيجعل قائل القول سببًا للقبول والرد من غير وزن بالكتاب والسنة.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه للحارث بن حوط لما قال له: يا عليّ، أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل وأنت على حق؟ فقال: «لا يا حارِ إنه ملبوس عليك، اعرف الحق تعرف أهله، إن الحق لا يُعرف بالرجال، وإنما الرجال يُعرفون بالحق».
وكلّ من اتخذ شيخًا أو عالمًا متبوعًا في كلّ ما يقوله ويفعله، يوالي على موافقته ويعادي على مخالفته غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مبتدع ضالّ خارج عن الكتاب والسنة، سواء كان من أهل العلم والدين، كالمشايخ والعلماء، أو كان من أهل الحرب والديوان، كالملوك والوزراء... وهذا هو الأصل الفارق بين أهل السنة والجماعة، وبين أهل البدعة والفرقة.
فإنّ أهل السنة والجماعة يجعلون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام المطلق، الذي يتبعونه في كلِّ شيء، ويوالون من والاه ويعادون من عاداه، ويجعلون كتاب الله هو الكلام الذي يتبعونه كلَّه ويصدِّقون خبره كلَّه، ويطيعون أمره كلّه، ويجعلون خير الهدي والطريق والسنن والمناهج هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل البدعة فينصبون لهم إمامًا يتبعونه، أو طريقًا يسلكونه، يوالون عليه ويعادون عليه، وإن كان فيه ما يخالف السنة، حتى يوالوا مَن وافقهم مع بُعْدِه عن السنة، ويعادون من خالفهم مع قُرْبه من السنة» [جامع المسائل (١ / ٤٦٣)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ، اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ، وَاسْتَحَقَّ مِنْ الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ، فَيَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَةِ، فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا» [مجموع الفتاوى (٢٨ / ٢٠٩)].
وقد غفل كثيرٌ من السلفيين عن حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لا تَدخُلونَ الجنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا . ولا تؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا . أوَلا أدلُّكُم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحابَبتُم ؟ أفشُوا السَّلامَ بينَكُم». رواه مسلم.
لذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: «أَحبُّوا أهل السّنة على مَا كَانَ مِنْهُم، أماتنا الله وَإِيَّاكُم على السّنة وَالْجَمَاعَة» [طبقات الحنابلة (١ / ٣٤٥)].
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: «إِذَا بَلَغَكَ عَنْ رَجُلٍ بِالْمَشْرِقِ صَاحِبِ سُنَّةٍ وَآخَرَ بِالْمَغْرِبِ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمَا بِالسَّلَامِ وَادْعُ لَهُمَا، مَا أَقَلَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ» [اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١ / ٥٠)].
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى أيضاً: «اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ خَيْرًا، فَإِنَّهُمْ غُرَبَاءُ» [اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (١ / ٤٩)].
إنّ الصادق المصلح هو الذي يسعى مجتهداً إلى تصحيح عقائد الناس وأعمالهم ليخرجهم من البدعة إلى السنة، بينما نجد اليوم بعض الناس يسعى مجتهداً إلى إخراج أهل السنة من السنة، قال تعالى ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: ٢٥٧].
ومن المؤسف جداً ما نشاهده اليوم من التناحر الشديد بين أهل السنة، وأكثر أسبابه غير شرعية، بل حظوظ نفس، وقد ينتقم كثير منا لنفسه وهواه ثم يزعم أن كل ما قام به إنما هو نصرة للعقيدة والمنهج والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « وَهَكَذَا الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ: إِنْ لَمْ يَقْصِدْ فِيهِ بَيَانَ الْحَقِّ وَهُدَى الْخَلْقِ وَرَحْمَتَهُمْ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمْ، لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ صَالِحًا.
وَإِذَا غَلَّظَ فِي ذَمِّ بِدْعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ كَانَ قَصْدُهُ بَيَانَ مَا فِيهَا مِنَ الْفَسَادِ لِيَحْذَرَهَا الْعِبَادُ، كَمَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ يُهْجَرُ الرَّجُلُ عُقُوبَةً وَتَعْزِيرًا، وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ رَدَعُهُ وَرَدَعُ أَمْثَالِهِ، لِلرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ، لَا لِلتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ» [منهاج السنة النبوية (٥ / ٢٣٩)].
الله المستعان، هذا إذا كان المردود عليه والمهجور من أهل البدع وليس من أهل السنة، لا يكون عملاً صالحاً إذا كان المقصود منه التشفي والانتقام، فكيف إذا كان المردود عليه من أهل السنة؟!
إنها أمراض فتاكة تنخر في أجساد السلفيين وتفسد قلوبهم، فكثير منا لا يكاد يحسن الظن بإخوانه إلا قليلاً، بل وجد في صفوفنا من يفرح بزلة أخيه، وتجده يجتهد بكل ما أوتي ليثبت على أخيه قولاً أو اعتقاداً لا يقصده أخوه لا من قريب ولا من بعيد.
والواجب على المسلم عموماً والسني خصوصاً أن يتقي الله عز وجل ويحمل كلام إخوانه على المحامل الطيبة الحسنة، ويحسن الظن بهم لتسلم له نيته وينشرح صدره، والواجب عليه أيضاً أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويبغض لأخيه ما يبغض لنفسه، ويرجى لمن فعل ذلك أن يعفى قلبه ويحفظه الله من السوء والمكاره.
وقال ابن القيم رحمه الله : «فَلَيْسَ لِلْقَلْبِ أَنْفَعُ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِاللُّطْفِ، فَإِنَّ مُعَامَلَةَ النَّاسِ بِذَلِكَ: إِمَّا أَجْنَبِيٌّ فَتَكْسِبُ مَوَدَّتَهُ وَمَحَبَّتَهُ، وَإِمَّا صَاحِبٌ وَحَبِيبٌ فَتَسْتَدِيمُ صُحْبَتَهُ وَمَوَدَّتَهُ، وَإِمَّا عَدُوٌّ وَمُبْغِضٌ فَتُطْفِئُ بِلُطْفِكَ جَمْرَتَهُ وَتَسْتَكْفِي شَرَّهُ، وَيَكُونُ احْتِمَالُكَ لِمَضَضِ لُطْفِكَ بِهِ دُونَ احْتِمَالِكَ لِضَرَرِ مَا يَنَالُكَ مِنَ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِ وَالْعُنْفِ بِهِ» [مدارج السالكين (٢ / ٥١١)].
أسأل الله تعالى أن ينقي قلوبنا ويطهر نياتنا ويصون ألسنتنا ويؤلف بيننا ويقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.