من كلية الشريعة إلى راعي غنم !!
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فعادةً الكاتب تستثيره الأحداث فيكتب عما استثاره، وفي الأسبوع الماضي استثارني حدثٌ ما كنت أتوقع أن يحدث مثله من أبناء بلدي الكويت الذين عرفهم القاصي والداني بحمد الله تعالى بالبذل والعطاء، والرحمة بالمساكين والفقراء، بصورة نتجاوز بها- والحمد لله- كثيراً من الناس والفضل لله أولاً وآخراً.
والذي حدث أنني بينما كنت في أحد دروسي أُسمع لطلابي ما قررت عليهم حفظه وهم ما بين ممتاز وجيد وضعيف رفع شاب يده راغباً أن يسمّع ما حفظه، فأذنت له فقرأ قراءة جيدة بلغة عربية فصحى، شكرته ثم سألته: ما اسمك؟ قال: هاشم. قلت له: من أي بلد قدمت؟ قال: من بوركينا فاسو!!
في الحقيقة أسمع ببوركينا فاسو لكن لا أذكر أنني قابلت شخصاً من تلك البلاد في الكويت من قبل، وبعد الدرس جاء وصافحني، ثم سألته : ماذا تعمل في الكويت؟ فقال: خادم. قلت له متعجباً: خادم؟!! قال: نعم. ولعلك أخي القارئ الكريم تتعجب مما تعجبت منه، خادم في الكويت من بوركينا فاسو!! ثم أخذ يتردد على بعض دروسي أكثر من يوم، ثم زارني في مجلسي الخاص في المسجد، وقد أعجبني خلقه وأدبه وحياؤه، فسألته: ما الذي جاء بك إلى الكويت لتعمل خادماً؟ فقال: ما جئت لأعمل خادماً وأنا متزوج ولي أسرة وعندي ولد، وإنما جئت لأطلب العلم في كلية الشريعة في جامعة الكويت! قلت له: كيف؟ قال: درست في بلدي في إحدى مدارسها، وحفظت القرآن كاملاً والحمد لله، ودرست اللغة العربية وبعض العلوم الشرعية، ثم انتقلت إلى جمهورية ساحل العاج، وعملت مدرِّساً لتحفيظ القرآن فجاءني رجل فقال: هل ترغب في إتمام دراستك في كلية الشريعة في جامعة الكويت؟ قلت: نعم، وذلك لأنني وجدت هذه فرصة قد لا تعوض، وقد ينفعني الله بها فأسافر وأطلب العلم وأستفيد، فقلت وبكل تأكيد: نعم أرغب في ذلك، لا سيما أن للكويت سمعة طيبة وكبيرة في نفوس الأفارقة وسائر البلاد الفقيرة. ثم طلب مني أوراقي الرسمية، وطلب مني بعض المال، وبعد أيام جاءني، وقال لقد تمّ قبولك في كلية الشريعة في الكويت، فرحت جداً واستبشرت خيراً وهنأني مَن هنأني، وتجهزت للسفر ليوم كذا وكذا، وقال لي ذلك الرجل سأعطيك الأوراق في المطار، فرحت جداً ووَدَّعْت أهلي وزوجتي وولدي، معتذراً لهم بأن هذا السفر ضروري لكي أطلب العلم وأتفقه في الدين، وسأرجع لكم أحمل شهادة الشريعة من كلية الشريعة من الكويت.
ويوم السفر أوصلني إلى المطار وأعطاني ورقة لم أفهم منها شيئاً، لكن قال لي: إذا وصلت مطار الكويت سيستقبلك بعض طلبة العلم ويذهبون بك إلى كلية الشريعة، فلما وصلت مطار الكويت استقبلني شخص وتوجه بي إلى منزله الخاص، فسألته : أين كلية الشريعة؟ فقال: قوانين الدولة في الكويت تنص على ضرورة اتخاذ بعض الإجراءات المتعلقة بالإقامة قبل الدراسة في كلية الشريعة، فصدقته ،وبعد يومين أخذني في سيارته الخاصة وقال: سنذهب اليوم إلى كلية الشريعة! سررت جداً وشعرت بأن الفرج قد جاءني وأني سألتحق بكلية الشريعة، وسأحقق أهداف سفري إلى الكويت، بل وستتحقق أحلامي التي طالما حلمت بها، ثم انطلق بي مسافة طويلة حتى بدأنا بمفارقة بيوت المدينة وسرنا في طريق صحراوي لا أرى فيه البيوت ولا المباني! فسألته: هل الجامعة بعيدة عن المدينة؟ فقال: نعم هي في منطقة منعزلة عن المدينة. فقلت في نفسي: هذا جيد لكي أتفرغ لطلب العلم في الجامعة بعيداً عن المدينة. بعد ذلك وصلنا إلى مكان في وسط الصحراء فيه بعض الأغنام، فقال: انزل، فنزلت، ثم سألته أين كلية الشريعة؟ فأشار إلى الغنم فقال: هذه كلية الشريعة!!! حبيبي أنت هنا جئت بفيزة راعي غنم وليست فيزة طالب في كلية الشريعة!! بعدها صعقت لما سمعته، وعرفت أنني خدعت ووقعت في شباك النصابين!! سألت نفسي: هل هذه الكويت بلد الخيرات والصدقات وكفالة الأيتام والأرامل، هل يعقل يفعلون بي هذه الخدعة؟!
لقد تركت تدريس القرآن في بلدي وتركت زوجتي وأسرتي وولدي رغبة في طلب العلم لكي أرجع إلى بلدي وأعلم أبناء المسلمين ما أتعلمه في بلاد المسلمين، ما جئت لكي أعيش في الصحراء مع الغنم، فأبديت للأخ عدم رغبتي في العمل في الصحراء وبعد شهرين قضيتهما في الصحراء مع الغنم، دفعني لشخص آخر لأعمل خادماً في منزله في المجلس الذي عرفت لاحقاً أنكم تسمونه "الديوانية" اجلس فيه الليل كله من المغرب إلى الفجر للقهوة والشاي، وأنا ما زلت على هذه الحال، والرجل أكرمني وعطف عليَّ وعرف أنني خدعت فقال: متى ما تيسر لك الذهاب إلى أي مكان آخر للدراسة أو العمل فلا مانع لدي من تحويل إقامتك. فجزاه الله خيراً، وأنا مازلت أنتظر الفرج من الله تبارك وتعالى.
أقول: إخواني من يستطع مساعدة الأخ "هاشم" إكراماً للقرآن الذي يحفظه في صدره فأرجو أن لا يقصر معه، وليحتسب الأجر والثواب من الكريم الوهاب، فلنساعده ليدرس في كلية الشريعة أو كلية التربية أو المعهد الديني، أو يسعى في توظيفه في وزارة الأوقاف مؤذناً أو محفظاً للقرآن أو أي عمل يليق بمقامه، وهو ضيف علينا فلْنُحْسِن ضيافته، ولنستدرك الخطأ الذي ارتكب في حقه، فكرمكم يا أهل الكويت مشهور وعطفكم على الفقراء مشكور، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « ومَن فرَّجَ عن مسلمٍ كربةً فرَّجَ اللهُ عنه كربةً مِن كُرُبَاتِ يومِ القيامةِ» [رواه البخاري رقم: 2442، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه]، فقد يقول قائل: الفقراء سواه كثيرون فلماذا الاهتمام بالأخ "هاشم" بالذات؟ فأقول: إنه حافظ لكتاب الله جل وعلا، والله يرفع بكتابه أقواماً ويضع به آخرين، إنه طالب علم حتى الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، فلنكرمه بما نستطيع، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فهل من محسنٍ يبلغه كلامي ويفزع لهذا الطالب؟ جزاكم الله خير الجزاء وبارك الله فيكم وفي أعمالكم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.