ولو سكت من لا يدري لاستراح وأراح، وقَلّ الخطأ وكثر الصواب (٢)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا المقال الثاني في التعقيب على كلمة ألقاها الأخ زيد بن حليس الدوسري قد غلط فيها غلطاً فاحشاً، أسأل الله تعالى أن يجعل ما أكتبه نافعاً لي وله ولكل من يبلغه مقالي.
قبل الشروع في الرد على كلام الأخ زيد أريد أن أنبه على أمرين:
الأول: سألني غير واحد : مَن الأخ زيد بن حليس؟
فأقول: الأخ زيد رجل كريم متحمس يحب الخير، متعلم تعليماً متواضعاً، ربما لم يتجاوز المتوسطة، أو تجاوزها بقليل، يعمل شرطياً في وزارة الداخلية، ربما تقاعد حالياً، كان مع فرقة التبليغ لمدة سنوات، ثم توجه للسلفية وتحمس لها، وحضر بعض الدروس، لكن تحصيله متواضع جداً، ولعل بعض الناس استغل حماسه فدفعه ليتكلم في الآخرين، هداه الله وإياهم إلى صراطه المستقيم.
ثانياً: لما ذكرت كلام الأخ زيد في المقال السابق، وبينت بطلانه، وذكرت قوله بأن من انتسب إلى الأحزاب أو الجماعات فقد هدم أعماله كلها الاستقامة والصلاة وصيام الاثنين والخميس، ولا يقبل الله عز وجل منه، وذكرتُ في مقالي السابق بأن قول زيد هذا لم يقل به أحد من علماء أهل السنة، بل قوله أشبه بقول الخوارج، إذ الشرك بالله تعالى هو الذي يهدم الأعمال فحسب، وبعد ذلك أخبرني أحد طلبة العلم بأن (محمود الحداد المصري) المعاصر الذي تُنسب له الطائفة الحدادية يقرر في كلامٍ له ما قرره الأخ زيد، أي أن المبتدع لا يُقْبَلُ له عمل، وقد ردّ عليه بعض العلماء وردودهم معلومة منشورة!!
وفي الحقيقة أن كلام الأخ زيد لا يتطابق مع كلام محمود الحداد مطابقة تامة، لأن الحداد كلامه مطرد أكثر من كلام زيد بن حليس، وإن كان كلاهما مبطل، ولتوضيح ذلك أقول:
الحداد يبدع أفراد الجماعات والأحزاب، ثم يقول: بما أنهم مبتدعة فبالبدعة تهدم أعمالهم كلها، المبتدع لا يقبل الله له عملاً، بينما الأخ زيد يقول: هذه الجماعات جماعات بدعية، يعلمون الناس البدع ويسقونهم البدع سقياً و و و إلخ..، لكنه لا يبدعهم أفراداً، وإنما قرر أن الانتساب لهم يهدم الأعمال كلها ولا يقبل الله عز وجل منهم.
ولو سألت الأخ زيداً: هل تبدع أفراد الجماعة أو الجمعية الفلانية؟
سيقول: لا!!
وهذا غريب جداً، يجري أحكام المبتدعة على من ليس بمبتدع!!
وقد بينت للأخ زيد خطأه الفاحش، فهل سيتراجع لا سيما إذا لم يجد من يوافقه على كلامه، ولم يسبقه إليه إلا محمود الحداد وأمثاله؟!
وإذا كان الأخ زيد كما يصف نفسه ومن معه بأنهم أصحاب سنة وأقحاح في السنة، وأنهم السلفيون الخلص، ولسان حالهم: أن لا يكاد يوجد لهم نظير، فليتق الله وليتراجع عن قوله الباطل، الذي قد يغتر به بعض الجهلة.
وقال الأخ زيد بن حليس: (فإذاً يحذر، يحذر الأب، لا يفرح باستقامة ولده، إلا إذا كان على السنة، مع ناس مؤتمنين، ناس معروفين، ناس مشهود لهم، أما والله فرح ابني استقام، يصلي، يشهد الصلوات، ما شاء الله يصوم الاثنين والخميس، هذا طيب، ولكن إذا اقترن هذا ببدعة، لا، هدم كل هذا الأمر، لا يقبل الله عز وجل منه) انتهى كلامه.
وأقول: أولاً: سؤالي للأخ زيد: مَنْ الناس المؤتمنون الموثوقون المشهود لهم الذين أشرت إليهم في كلامك؟
وهل يبلغون في الكويت خمسين نفراً؟
وأين يوجدون ليلتحق بهم من أراد النجاة؟
وهل حضرتك - يا أخ زيد - مؤتمن ومُوَثَّق ومشهود لك؟
ومن الذي وثقك وشهد لك؟
وهل التوثيق والشهادة محصورة في مُوَثّقين شهود معينين؟
يا ليت الأخ زيد يبين للآباء الشهادة التي شهدوا له بها والتوثيق الذي وثقوه به، وماذا قالوا عنه فيها؟
أخي القارئ الكريم ليس في أسئلتي تعجيز للأخ زيد، فهو أصلاً عاجز عن الإجابة عنها، ولكن لبيان أن طرحه باطل وكلامه شيء من الخيال، إذ يريد من كل أب أن لا يفرح باستقامة ابنه وصلاته وصيامه وقراءته للقرآن، حتى يتحقق من الموثوقين المؤتمنين المشهود لهم، فكان لزاماً أن يبين للآباء من المؤتمنون الموثوقون المشهود لهم ومن الشاهد لهم ووووالخ حتى يتمكنوا من الأخذ بنصيحته، أليس كذلك؟!
ثانياً: الأخ زيد يوحي بكلامه بأن كل شاب استقام وصار متديناً مع المتدينين فهو على خطر وعلى وشك أن يضيع ويلتحق بالجماعات الإرهابية الخارجية!!
وكلامه هذا من جنس كلام أصحاب المناهج الليبرالية والعلمانية الذين يتهمون المستقيمين بكل سوء.
لذا أقول: يا أخ زيد بن حليس لا تكن ضد المستقيمين على طول الخط، وإنما الواجب عليك نقد ما عندهم من خطأ، وتصحيح ما عندهم من اعوجاج، فما استقاموا به فاحمدهم عليه واشكرهم وشجعهم، وما أخطؤوا فيه أو انحرفوا فيه عن جادة الحق فقومهم، وكن بإخوانك رحيماً، ولا تجعل همك تبديع الناس، فهذا مسلك ليس بجيد، بل هو خلاف ما توجبه الشريعة عليك، رويداً رويداً فقد أسرفت كثيراً في حربك المستمرة المسعورة على المتدينين خاصة.
ثالثاً: ومصداق كلامي هذا أن الأخ زيداً ينتقد أموراً هو محق في إنكاره إياها ولا شك، لكن كأنه لا يراها منكرة إلا إذا صدرت عن المتدينين، فالتحزب بدعة عند المتدينين، والمنازعة لولي الأمر منكر عند المتدينين، والتشهير دعوة للخروج عليه إذا فعله المتدينون، والعبث بالمال العام حرام إذا كان العابث من المتدينين، وكلامه هذا كله حق، ولكن لا يكاد يسمع له كلمة في حق غير المتدينين!!
والذي يظهر لي أنه اقتنع بكلام أحد المتعالمين بحجة أن هؤلاء المتدينين مبتدعة أما أولئك فعوام مهما ارتكبوا من الطوام.
ولذلك يقول الأخ زيد بالحرف الواحد وهو يذكر بعض البدع: (بدعة في الخروج، بدعة في التنظيمات، بدعة في البيعات، بدعة في منازعة ولاة الأمور، أي بدعة جاءت) انتهى كلامه.
والسؤال: هذه البدع لو كانت في غير المتدينين هل تصبح سنناً أم تبقى بدعاً؟
كل منصف سيقول: بل هي بدع سواء قام بها الملتحي المقصر إزاره أو الحليق المسبل.
لكن الأخ زيداً لا يدرك هذا الأمر بل هو في غفلة عنه، فشدته دائماً على المتدينين فحسب، مثل حال كثيرٍ من الذين يتكلمون عن الإرهاب والإرهابيين، لا يعتبرون إرهاباً إلا إذا كان القاتل مسلماً ملتحياً، أما غير المسلم مهما يقم به من إجرام وقتل وسفك فليس بمتطرف ولا إرهابي، كالذين يقولون: بشار الأسد مسلم سني، يصلي العيد، وقد اعتدى عليه الإرهابيون، ومن حقه أن يدافع عن نفسه.
نسأل الله السلامة.
وقال الأخ زيد بن حليس - غفر الله له ولوالديه -: (فنجد أيضا ممن تأثر بهم وتلوث يقول: "إن بعض البدع أو الكبائر أشر من البدع"؛ لا، النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل بدعة ضلالة"، فالبدعة ضلالة) انتهى كلامه.
أقول: أولاً: لقد (عادت حليمة لعادتها القديمة) كما قيل في المثل العربي القديم، ولقد ظننت أننا قد انتهينا من هذه المسألة بعد أن كتبت مقالاً بعنوان: "البدعة أشد وأغلظ من الكبائر"، وهو مثبت في موقعي الرسمي تحت رقم (١١٨)، وبينت المسألة بالتفصيل، حتى بعض الإخوة - بعد ما اتضحت لهم صورة المسألة - قالوا: لم نقل خلاف هذا من قبل!!
فقلت: الحمد لله، المهم اتفقنا بعدما كنا مختلفين.
واليوم عاد الأخ زيد - هداه الله - ليلبس على الناس من جديد، ويقول: (فنجد أيضاً ممن تأثر بهم وتلوث يقول...)، والسؤال : مَن هذا المتأثر بالحزبيين المتلوث بهم؟
طبعاً الأخ زيد لا يتجرأ في ذكر اسم هذا المتأثر بالحزبيين والمتلوث بهم!!
مع أنه يزعم الوضوح في منهجه وطرحه!!
أولاً: يا أخ زيد ليس بيني وبينك خلاف على أن البدع خطيرة وأن كل بدعة ضلالة.
والمفروض أن لا يكون النقاش في المسائل المتفق عليها حتى لا يضيع الوقت، فنحن متفقون على الآتي:
1/ البدع خطيرة. 2/ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. 3/ ليس في البدع ما هو حسن، بل كلها قبيحة وضلال. 4/ البدع شر وأغلظ وأنكر من المعاصي صغيرها وكبيرها.
وبعد هذا البيان نريد التحقيق في المسألة التي هي محل الخلاف، فإن لم نحرر موضع الخلاف فلن ندرك الخطأ من الصواب.
وكما قيل: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فصورة المسألة كالآتي: هل كل بدعة شر من كل كبيرة؟ وبصيغة أخرى: هل بعض الكبائر أشد من بعض البدع؟
لا تقل يا أخ زيد: البدع ضلالة، وخطيرة ووو إلخ، فهذا مما اتفقنا عليه، فلا تنحرف بنا عن سير النقاش.
لقد بينت في مقالي الآنف الذكر أن ليس كل بدعة أشد من كل كبيرة، وأن من الكبائر ما هو أشد من بعض البدع، وذكرت العلماء الذين قالوا بهذا القول، والذين أخذت عنهم هذا الحكم، فلست مبتدعاً له، ولست أول من قال به، وبينت أن المراد بقول العلماء (البدعة شر من المعصية)، أي جنس البدعة شر من جنس الكبيرة أو المعصية، وليس المراد كل بدعة شر من كل كبيرة أو كل معصية، فعقوق الوالدين مثلاً من أكبر الكبائر ولا شك أن عقوق الوالدين شر من بدعة الذكر الجماعي، وقتل المؤمن تعمداً شر من بدعة مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، وأكل الربا وأكل مال اليتيم من السبع الموبقات وهي شر من بدعة التلفظ بالنية.
والأمثلة كثيرة جداً، وأما استدلال الأخ زيد بحديث (كل بدعة ضلالة) فلا وجه له بتاتاً، إذ إن المعاصي والكبائر هي من الضلال أيضاً وليست من الهدى قطعاً، وقد قال الله تعالى: { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا } [الأحزاب: 36]، فتأمل قوله: { وَمَن يَعْصِ } ولم يقل ومن يبتدع، فلو تأمل الأخ زيد هذا الكلام جيداً لتبين له خطأه، ولو راجع تلميذه الدكتور فواز العوضي أو شيخه الصامت طارق بن حسين، فأظن سيوافقونني على كلامي، بل ولا أعلم أن أحداً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: «كل بدعة مهما صغرت وخفيت هي أكبر من كل كبيرة عُصِيَ الله عز وجل بها مهما عظمت»، فإن كنت يا زيد تعلم أحداً قال بخلاف كلامي فاذكره لي، ولا تكتم العلم عني ولا عن غيري، بل ونريد أن نعرف من سبقك إلى ما ذهبت إليه؟، فإن كنت لا تدري فاسكت، أما سمعت قول الحافظ المزي رحمه الله تعالى في «تهذيب الكمال، (٢/ ٣٦٢)»: «لو سكت من لا يدري لاستراح وأراح، وقَلّ الخطأ، وكثر الصواب». وقبل ختام مقالي عندي سؤال للأخ زيد بن حليس وانتظر منه الجواب، نص السؤال: هل يا أخ زيد صلاتك وصيامك وقراءتك للقرآن لما كنت مع فرقة التبليغ هل كانت صحيحة مقبولة؟ وإذا كانت صحيحة مقبولة فلماذا تصح وتقبل منك ولا تصح ولا تقبل من غيرك؟ وإذا كانت غير صحيحة ولا مقبولة، فهل عليك قضاء الصلاة والصيام أو تكفيك التوبة النصوح؟
أخي القارئ الكريم لم أنته من التعقيب على كلام الأخ زيد هدانا الله وإياه إلى صراطه المستقيم .
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.