إنك امرؤٌ فيك حدادية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن اتباع الحق توفيق من الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النور: ٤٦]، وليس بالضرورة أن كل من ادعى لنفسه بأنه صاحب حق أو أنه الأكمل والأمثل أن يكون كذلك، فقد لا يعلم عن نفسه أنه على غير حق، بل قد يكون مبطلاً وهو لا يشعر، وقد يحسب أنه يحسن صنعاً وهو مفسد، وقد يزين له الشيطان عمله، أو يغلبه هواه، أو يتعصب لمتبوع أو يتمسك برأي ضعيف أو قولٍ مرجوح، وقد يثق بنفسه والنفس ليست محلاً للثقة، وقد يصيب الحق ناقصاً أو يوافق الحق في جانب دون آخر، والناس فيما ذكرت نِسَبٌ متفاوتة، ولا يبرئ نفسه من ذلك غالباً إلا المفتونون أو المغرورون.
ولقد وقفت على كلام نفيسٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لو عقلناه لانتفعنا به كثيراً بإذن الله تعالى، وهو قوله رحمه الله تعالى: «أمَّا أنْ يُفْرِدَ الإنسانُ طَائِفةً مُنْتَسِبَةً إلَى مَتْبُوعٍ مِنَ الأمة ويسميها: (أهل الحقِّ)، وَيُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَهَا فِي شَيْءٍ (فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ!) فَهَذَا حَالُ أَهْلِ الأهواءِ والبدع...
فَلَيْسَ الْحَقُّ لَازِمًا لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ دَائِرًا مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، لَا يُفَارِقُهُ قَطُّ إلَّا الرَّسُولَ ﷺ إذْ لَا مَعْصُومَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الْبَاطِلِ غَيْرُهُ، وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى عِبَادِهِ وَأَوْجَبَ اتِّبَاعَهُ وَطَاعَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
وَلَيْسَ الْحَقُّ أَيْضًا لَازِمًا لِطَائِفَةٍ دُونَ غَيْرِهَا إلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْحَقَّ يَلْزَمُهُمْ إذْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِيهِ مَعَ الشَّخْصِ أَوْ الطَّائِفَةِ فِي أَمْرٍ دُونَ الْأَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُخْتَلِفَانِ كِلَاهُمَا عَلَى بَاطِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ طَائِفَةً مَنْسُوبَةً إلَى اتِّبَاعِ شَخْصٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ» انتهى كلامه [الفتاوى الكبرى (٦/ ٦٠٨-٦٠٩)].
فهل يَعْقِلُ هذا مدير فرع الكويت الأخ أحمد السبيعي ونائبه الأخ محمد العنجري؟! أرجو من الله أن يوفقهما لذلك!
أقول: لقد استمعت لكلام تم نشره للأخ زيد بن حليس الدوسري غفر الله له ولوالديه، لم يوفق فيه، وقد حمله على ذلك الحماس الزائد للسنة والتمسك بها، ودائماً الحق يكون وسطاً بين الغالي فيه والجافي عنه، ولقد زعم أن العمل لا يقبل من أي مسلم تلبس ببدعة، فقال بالحرف الواحد بلا زيادة ولا نقصان: «فإذاً يحذر، يحذر الأب، لا يفرح باستقامة ولده، إلا إذا كان على السنة، مع ناس مؤتمنين، ناس معروفين، ناس مشهود لهم، أما والله فرح ابني استقام، يصلي، يشهد الصلوات، ما شاء الله يصوم الاثنين والخميس، هذا طيب، ولكن إذا اقترن هذا ببدعة، لا، هدم كل هذا الأمر، لا يقبل الله عز وجل منه… الله عز وجل احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يضع بدعته، فما هي فائدة الاستقامة من غير أن تكون على السنة؟!» انتهى كلامه.
وتأمل أخي القارئ الكريم قوله: «هدم "كل" هذا الأمر»، وقوله: «"ولا يقبل" الله عز وجل منه».
وظاهر كلام الأخ زيد أن البدعة غير المكفرة تحبط جميع الأعمال، وهذا في الحقيقة تكفير، وقوله هذا مخالف لمذهب أهل السنة، إذ لا يحبط "جميع" الأعمال إلا الكفر الأكبر والشرك الأكبر والنفاق الأكبر.
أما البدعة غير المكفرة فتحبط العمل المُبْتَدَع فقط، بل لو فرض أن العبادة المشروعة فيها بدعة فلا تبطل تلك العبادة كلها، كما لو حج المسلم ووقع في بدعةٍ من بدع الطواف أو السعي أو رمي الجمرات فلا يبطل حجه الذي فيه تلك البدعة فضلاً أن تبطل جميع أعماله الأخرى، هذا عند أهل السنة، أما الأخ زيد - غفر الله له ولوالديه - فقد خالف مذهب أهل السنة فهو يقرر أن البدعة تهدم "كل" هذا الأمر، ولا يقبل الله عز وجل منه !!!
ولقد أرسلت له نصيحة وطلبت منه أن يعيد النظر في كلامه، لكن للأسف كالعادة لا ينتصح! والواجب شرعاً على كل مسلم أن يقبل الحق وينقاد له، لأنه حق لا لأن فلاناً قاله.
والذين يدّعون لأنفسهم الوضوح والسنة والسلفية الحقة يُفترض فيهم أن يكونوا أولى الناس بقبول النصيحة والأخذ بها، والواجب على الإخوة الدكاترة كالأخ الدكتور طارق بن حسين السبيعي والأخ الدكتور خالد بن ضحوي الظفيري والأخ الدكتور فواز العوضي أن يوجهوا أخاهم زيداً الدوسري، الذي فاته أن يتعلم، ويتأصل التأصيل الصحيح.
وأقول: للأسف هذه المجموعة من مديرها إلى أدنى أو أصغر واحد فيهم لا يكاد أحدهم أن يقبل نصيحة وكأنهم معصومون من الخطأ، أسأل الله تعالى أن يهديني وإياهم إلى صراطه المستقيم.
أقول: إن كلام الأخ زيد بن حليس قريب جداً من كلام (محمود الحداد) بل يكاد كلامهما يتطابق، مما يدل على أن مشكاتهم واحدة، ولك أخي القارئ الكريم أن تنظر في كلامهما وتحكم بنفسك، أما كلام الأخ زيد فقد تقدم ذكره، وأما (محمود الحداد) فقد نقل عنه الشيخ ربيع المدخلي حفظه الله تعالى قوله: «وأما الخواج فقبح الله أمرهم فاحذرهم وحذِّر منهم من لقيت فوالله إنهم لشرار الخلق كما وصفهم رسول الله ﷺ، وهم وغيرهم من أهل البدع لا ينفعهم جهاد ولا غيره حتى يتوبوا من بدعهم ويرجعوا إلى السنة [كتاب يوم لا ظل إلا ظله] : ص (١١٨)]» انتهى كلام الحداد كما نقله عنه الشيخ ربيع المدخلي في كتابه [النصر العزيز على الرد الوجيز - مجموع كتب ورسائل وفتاوى (٢٤٠/١٠)].
وكل منصف يتضح له جلياً مدى التقارب إن لم يكن التطابق بين كلام الأخ زيد وكلام (محمود الحداد)، حتى أستطيع أن أقول إن رد الشيخ ربيع على محمود الحداد يصلح أن يكون رداً على الأخ زيد، لذا أنقل لك أخي القارئ العزيز رد الشيخ ربيع للفائدة، فقد قال في الكتاب المذكور: فرددت عليه [أي الحداد] بقولي: «ونحن نصفهم بما وصفهم به رسول الله ﷺ ونحذرهم ونحذر منهم بل نحذر من كل البدع ومن كل داع إليها؛ ولكن من أين لك أن أهل البدع لا ينفعهم جهاد ولا عمل من صلاة وزكاة وصوم وحج وعمرة وبر وصلة رحم وبذل المال والنفس في الجهاد حتى يتوبوا بهذا التعميم والإطلاق؟! ومن فهم هذا من أئمة الإسلام؟! إن "الكفر" هو الذي يحبط العمل ولا تنفع معه الطاعة، أما البدعة فليست كذلك، فإنها هي التي ترد ولا تقبل منه، ولكنها لا تحبط سائر عمله ما دام مسلماً لم يخرج عن دائر الإيمان والإسلام. ألا تعلم أنك قد التحقت بركب "الخوارج" بهذه النظرة الجاهلة المصادمة للكتاب والسنة ولمنهج السلف الصالح؟ فبهذه النظرة الغالية صار الخوارج شرار الناس، وبهذا الظلم والغلو في النظرة إلى الذنوب صاروا خوارج» انتهى كلام الشيخ ربيع.
وصدق حفظه الله تعالى، فثمّ شبه كبير بين الخوارج وبين الذين يسمون أنفسهم بالأقحاح - وفي لفظة - بالسلفيين الخلص، فقد عمد الخوارج إلى نصوص نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين، وكذلك هؤلاء عمدوا إلى نصوص وأقوال مأثورة في أهل البدع كالجهمية والمعتزلة والرافضة وجعلوها في أهل السنة، وكما أن الخوارج يحاربون المسلمين ويتركون الكفار، وكذلك هؤلاء يحاربون أهل السنة ويدعون أهل البدع، حتى الباطني بشار الأسد النصيري الرافضي الحزبي البعثي سلم منهم، وقالوا عنه مسلم سني يصلي العيد وزوجته سنية، بينما لم يسلم منهم كثير من أهل السنة، وكما أن الخوارج يُخرجون المسلم من الإسلام بالكبيرة الواحدة، فهؤلاء كذلك يُخرجون السني لرأي خالفهم فيه، وكما أن الخوارج يصرون على رأيهم ولو كان باطلاً وكذلك هؤلاء، وكما أن الخوارج يذهبون إلى أن المسلم يحبط عمله كله بالكبيرة ولا يقبل الله منه شيء فهؤلاء يقول بعضهم من ابتدع بدعة فقد : «هدم كل هذا الأمر، ولا يقبل الله عز وجل منه».
فالحمد لله الذي عافانا.
أخي القارئ الكريم لم أنته من التعقيب على هذه المجموعة، فتابعني في المقال القادم - بل المقالات القادمة بإذن الله تعالى -.
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.