هل يلزم الأحبة والإخوان تبديع وتضليل الأعيان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلقد أرسل إليّ أحد الإخوة الكرام من روسيا مقطعاً صوتياً لأحد طلبة العلم أو المشايخ من مصر، وطلب مني التعليق عليه، والشيخ المصري أوصاهم في نصيحة مطولة خلاصتها أنه قال لهم: يجب عليكم أن تبدعوا فلاناً فلاناً،و كل من تبعهم، يعني بذلك أخوين اثنين، وهما سلفيان من أهل السنة لهما نشاط في الدعوة والتعليم لا بأس به منذ سنوات في روسيا، وذلك لأنهما رفضا أن يقبلا بعض إلزاماتهم في تبديع بعض المشايخ الذين اختلف العلماء فيهم ، وقال لهم في نصيحته : (الشيخ ربيع حامل لواء الجرح التعديل في هذا العصر وهو متخصص، ولا يَجرح إلا بدليل، فوجب عليكم اتباع الدليل، والشيخ ربيع إذا بدّع أحداً بالدليل وجب اتباعه حتى لو لم يبدعه غيره من العلماء، ولو كان الذين لم يبدعوه أكبر وأعلم منه كالشيخ ابن باز رحمه الله تعالى وغيره، لأن الشيخ ربيعاً متخصص في الجرح والتعديل!) انتهى كلامه مختصراً بمعناه
وعلى هذا التأصيل أوجب الشيخ المصري على الإخوة في روسيا أن يبدعوا كل من بدعوه بل ويبدّعوا الأخوين الأثنين اللذين لم يقبلا بعض إلزاماتهم في التبديع، وأوصاهم بأن يبدعوهما ويبدعوا كل من تبعهما!
أقول: سبحان الله! كان من النصيحة أن يأمرهم بالتآلف والاجتماع والتعاون على البر والتقوى، وعدم الاختلاف والافتراق، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواَ} [آل عمران: ١٠٣]، وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: ١٠٥]، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: ٢].
كان الأولى بهذا الشيخ -غفر الله له- أن يوصيهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا»، فأهل السنة في روسيا قلة ضعفاء تتجاذبهم فرق كثيرة، وتحيط بهم فتن عديدة، وتحاربهم تيارات كبيرة، فهم كالشعرة البيضاء في ظهر الثور الأسود، لا يتحملون الانقسام والافتراق على مسألة تبديع فلان من عدمه!!
فماذا يضرهم إذا لم يبدعوا فلاناً أو توقفوا في تبديعه أو أعرضوا عن سيرته؟!
فتبديع فلان أو عدم تبديعه ليس مما فرضه الله تعالى على كل مسلم حتى يترتب على ذلك الولاء والبراء والوصل والقطيعة والحب والبغض.
وأكبر دليل على صحة ما أقول أن الملايين من المسلمين من سكان الرياض - عاصمة المملكة العربية السعودية - سواء كانوا من أهلها أو من المقيمين فيها أو الوافدين إليها لا يعرفون الشيخ ربيعاً المدخلي، فضلاً عن أن يعرفوا الذي لا يوافقه، فضلاً عن أن يعرفوا قول الأول في الثاني، فضلاً عن أن يعرفوا أدلة تبديع الأول للثاني، فضلاً عن أن يفهموا الأدلة ويقتنعوا بها، لذا ما قال عالم قط بأن ذلك واجب على مسلمي روسيا دون مسلمي الرياض!!
فهل يعلم الأخ الشيخ المصري أن الرياض فيها ما يزيد عن خمسة آلاف مسجد؟!
وهل يعلم أن فيها ملايين المسلمين؟!
وهل يعلم أن الرياض أكثر عاصمة في الدنيا فيها مساجد لأهل السنة؟!
وهل يعلم الأخ الشيخ المصري أن الرياض لم تسبقها أي عاصمة من عواصم الدنيا في تاريخ الإسلام بعدد المساجد؟!
ومع ذلك ربما ٩٩% من المصلين لا يعرفون الشيخ ربيعاً المدخلي ولا من بدعه فضلاً أن يعرفوا الذي يُختلف حوله، فضلاً عن أن يبدعوه أو يقفوا على أسباب تبديعه، أو يقتنعوا بتبديعه!!
فمن ذا الذي أوجب على هؤلاء الشباب في روسيا تبديع فلان أو علان، وتبديع من لم يبدعه وأسقط هذا التكليف العظيم عن أهل الرياض؟!
ثم ، هل عدم متابعة كل أحكام الشيخ ربيع - حفظه الله - في الأشخاص يترتب عليه التبديع ولا سيما إذا تابع المسلم في هؤلاء الأشخاص كلام غيره من العلماء؟
أقول: ليس ثَمَّ أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلٌّ يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وليس ثَمَّ أحد فوق النقد حتى لو أتى بالأدلة على تبديع فلان من الناس، فقد تكون أدلته غير مقنعة لبعض الناس، وقد لا تكون مقنعة أصلاً، وقد يوافقه على أدلته قوم ويخالفه فيها آخرون، وقد يعجز كثير من الناس عن فهم أدلة التبديع، وقد لا يهتم بها كثير من الناس، وأكثر المسلمين أصلاً لا يَهمهم كون فلان مبدعاً أو ليس بمبتدع، فلماذا يتم إقحام مسلمي روسيا ومسلمي بلاد الغرب بوجه خاص دون مسلمي الرياض مثلاً؟!
كان يكفي الأخ الشيخ المصري أن يُحذر من الخطأ الذي عند هذين الأخوين - إن وجد - ويبن رأيه فيهما فحسب، أيضا ويسمع الكلام من الطرفين قبل أن يحكم عليهما، ويكتفي بالنصيحة دون أن يبدعهما ويأمر الناس بتبديعهما، فضلاً عن أن يأمرهم بتبديع من لم يبدعهما، ودون أن يأمرهم بالتقاطع والتدابر والهجران.
فكل مسلم له من الحب والولاء والنصرة والدعاء بما عنده من الخير والصواب، ولو كان عنده ما عنده من الخطأ أو الذنوب أو المعاصي أو البدع، ما لم يخرج من ملة الإسلام، وهذا أصل متفق عليه عند أهل السنة كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى [٢٠٩/٢٨] فقال: «إذَا اجْتَمَعَ فِي الرَّجُلِ الْوَاحِدِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَفُجُورٌ وَطَاعَةٌ وَمَعْصِيَةٌ، وَسُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ: اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَالثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ، وَاسْتَحَقَّ مِنْ الْمُعَادَاتِ وَالْعِقَابِ بِحَسَبِ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ، فَيَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ مُوجِبَاتُ الْإِكْرَامِ وَالْإِهَانَة،ِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، كَاللِّصِّ الْفَقِيرِ تُقْطَعُ يَدُهُ لِسَرِقَتِه،ِ وَيُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِحَاجَتِهِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ» انتهى كلامه رحمه الله.
فيا ليت الأخ الشيخ المصري يتقي الله تعالى في إخوانه أهل السنة وفي روسيا وغيرها، فإما أن يوصيهم بخير أو يصمت، روى الشيخان - البخاري ومسلم - في «صحيحيهما» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ». والحمد لله أولاً وآخرا،ً وظاهراً وباطنا،ً وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.