أين الله تبارك وتعالى؟! (٢)
الله في السماء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
تطرقنا في العدد الماضي إلى المناظرة التي عقدتها بين الشيخ عبد الله وبين تائه، ووقفنا عند تفسير (في السماء)، واليوم نستكمل بقية المناظرة.
التائه: هل بين التفسيرين منافاة؟
عبد الله: لا منافاة بينهما بل هذا تفسير اختلاف تنوع فإما يكون المعنى (في السماء) أي على السماء ويراد بالسماء على هذا التفسير السماء المبنية السبع الشداد أو (في السماء) أي في العلو وكلاهما حق.
التائه: كثيراً ما يستدل مشايخنا بقوله تعالى ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ) [الأنعامـ3] ويقولون الله تعالى في كل مكان.
عبد الله: الله أكبر، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، أخي الكريم للأسف هؤلاء المشايخ يستغلون جهل العامة فيلبسون عليهم عقائدهم، وأنا أريد أن أسألك سؤالاً.
التائه: تفضل يا شيخ.
عبد الله: ما معنى (الله)؟
التائه: الله يعني الله جل جلاله.
عبد الله: لم تفسر معنى (الله) وسأعيد عليك السؤال مرة أخرى ما معنى لفظ الجلالة (الله)؟
التائه: فعلاً أحرجتني لكن منك استفيد ما معناه؟.
عبد الله: (الله) أصله (الإله) ثم حذفت منه الهمزة للتخفيف فصار (الله) ومعناه (المعبود).
التائه: طيب طيب هذه فائدة جليلة لكن ما علاقة هذا بتوجيه قوله تعالى ( وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ )؟
عبد الله: هذا ما أردت أن تصل إليه بنفسك، إذا كان (الله) معناه (المعبود) فكيف سيكون معنى الآية؟
التائه: (وَهُوَ اللّهُ في السَّمَاوَات وَفي الأَرْض) يعني وهو (المعبود) في السماوات وفي الأرض.
عبد الله: فتح الله عليك وشرح صدرك للحق، هل تذكر آية في القرآن تطابق هذه الآية؟
التائه: لا أذكر، لكن لو ذكرت لي في أي سورة ربما أتذكر.
عبد الله: في سورة الزخرف.
التائه: نعم نعم تذكرت لعلك تقصد قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ) [الزخرفـ84].
عبد الله: بالضبط.
التائه: الآن فهمت، يعني معنى الآيتين أن الله تعالى (الله) (الإله) (المعبود) يعبده أهل السماوات وأهل الأرض.
عبد الله: لا إله إلا هو، أي لا معبود حق إلا هو.
التائه: صدق من قال: (العلم نور).
عبد الله: على أن للآية توجيهاً آخر.
التائه: بالله عليك يا شيخ نورني!!
عبد الله: اقرآ الآية بتمامها مع الوقوف على قوله (السماوات).
التائه: (وهو الله في السماوات)، (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم...).
عبد الله: ماذا فهمت؟
التائه: فهمت معنى لطيفاً ألا وهو كونه تعالى في السماوات ومع ذلك لا تخفى عليه خافية فيعلم في الأرض سرنا وجهرنا.
عبد الله: والآن سأذكر لك شطر حديث صحيح وأنا متأكد أنك تستطيع إتمام شطره الآخر.
التائه: تفضل يا شيخ وإن كان حفظي للأحاديث قليل.
عبد الله: روى الترمذي (1924) وأبو داود (4941) عن عبد الله بن عمروـ رضي الله عنهماـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض.....
التائه: يرحمكم من في السماء).
عبد الله: هذا الحديث من محفوظاتك أليس كذلك؟
التائه: بلى والله.
عبد الله: أخبرني ماذا تقول في سجودك وأنت تدعو الله تعالى؟
التائه: أقول (سبحان ربي الأعلى) ثم أدعو بما يفتح الله عليّ.
عبد الله: أما سألت نفسك لماذا سمى الله نفسه (العلي) و (الأعلى)؟
التائه: لعلوه طبعاً.
عبد الله: فما معنى علو الله تعالى؟
التائه: المشايخ يقولون علو قدره وصفته لا علو ذاته أي مكانه لا مكان.
عبد الله: لو لم يكن الله تعالى عالياً بذاته في السماء فلماذا ترفع يديك بالدعاء إلى السماء وبصرك يتقلب في السماء، وقلبك يتوجه إلى السماء؟ بل حتى في سجودك وجهك إلى الأرض لكن قلبك متوجه إلى السماء.
التائه: حقاً لا ينكر هذا إلا مكابر!! فما تفسير ذلك؟
عبد الله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الرومـ30] فأنت وأنا وغيرنا من سائر الإنس والجن بل حتى البهائم كلها فطرت على معرفة علو الله تعالى بذاته، وعلى هذا جميع الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والفطرة والعقل.
التائه: أنا دائما اتفكر معقول الجارية راعية الغنم تعرف أكثر من المشايخ والدكاترة أصحاب الشهادات العالية؟ والآن عرفت السبب لأنها كانت على الفطرة بينما غيرها قد تأثر بما غير عقيدته.
عبد الله: تعجبني يا أخي الكريم والذي يعجبني فيك أكثر إنصافك، فعلا هذا حال كثير من الدكاترة اليوم!! لكن هناك فرقا آخر كبيراً لم تفطن له بين الجارية راعية الغنم وبين بعض المشايخ والدكاترة.
التائه: ما هو؟
عبد الله: الجارية كان أستاذها ومعلمها ومن أعطاها درجة الإيمان مع مرتبة شرف الصحبة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما هؤلاء الدكاترة من أجازهم وزكاهم سوى أهل الأهواء مثلهم فتراهم يخالفون نصوص الكتاب والسنة ويخرقون الإجماع ويغالطون الفطرة والعقل فتراهم يقولون على الله ما لا يعلمون ويلبسون الحق بالباطل ويصفون الله بما لا يليق به.
التائه: إلى هذه الدرجة يا فضيلة الشيخ!! بالله عليك بين لي كيف ذلك؟
عبد الله: لو كان الله تعالى كما يقولون في كل مكان لكان في الأسفل كما هو في العلو، وهذا كفر وضلال لو كانوا يعقلون.
التائه: كأنك تكفرهم يا شيخ بصراحة هذا ما قاله لي عنك بعض المشايخ.
عبد الله: سبحان الله(رمتني بدائها وانسلت) هم يكفرون أهل السنة ويتهمونهم بالتكفير.
التائه: لكني سمعتك الآن تقول (هذا كفر وضلال).
عبد الله: نعم قلت وما زلت أقول، ومالي لا أقول إن القول بـ (أن الله في الأسفل) كفر وضلال وكذب على الله وافتراء لكن ليس بالضرورة أن أقول لمن قال (الله في كل مكان) يا كافر، وإنما انصحه وأبين له كما أفعل معك الآن فلم أقل لك يا كافر أليس كذلك؟
التائه: بلى، لكن المشايخ عندهم دليل على أن الله في كل مكان وهو قوله تعالى ( إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) [المجادلةـ7].
عبد الله: معية الله تعالى لخلقه حق لكن لا يلزم كونه معهم أنه حال بهم أو ممازج لهم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل المعنى أن الله تعالى مع جميع خلقه يعلمهم ويراهم ويسمعهم ويحيط بهم وهو في علوه. والعرب تقول ما زلنا نسير والقمر معنا، مع أن القمر أعلى منهم فإذا صح أن يقال ذلك في حق القمر وهو مخلوق فالأولى أن يقال الله تعالى مع خلقه وهو عالي عليهم.
التائه: فعلا هذا توجيه مقنع للآية لكن هل المعية نوع واحد؟
عبد الله: المعية معيتان، معية عامة تقتضي معية الله تعالى لجميع خلقه علماً وبصراً وسمعاً وقدرة وإحاطة، ومعية خاصة تقتضي الحفظ والتأييد والنصرة وهذه كقوله (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوتـ69] وقوله (إًنَّ اللّهَ مَعَ الصابرين) [الأنفالـ46]، وقوله (أَنَّ اللّهَ مَعَ المتّقين) [البقرةـ194]، وكقوله (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) [التوبةـ40]، وكقوله لموسى وهارون عليهما السلام ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) [طهـ46].
التائه: لماذا العلماء الكبار المشهورون لا يقولون بقولك ولا يقررون تقريرك؟
عبد الله: سبحان الله هذا كلام العلماء فلم أقل حرفاً واحداً من تلقاء نفسي، فما قررته لك هو عقيدة أهل السنة والجماعة من أولهم إلى آخرهم وما خالف في ذلك إلا أهل البدع والأهواء، ولكن القصور فيك فأنت الذي لم تطلع على كلام العلماء.
التائه: صحيح، ويا ليتني توقفت على كلام لعالم.
عبد الله: ناولني هذا الكتاب الذي هناك.
التائه: مجموع فتاوى ومقالات للشيخ عبد العزيز بن باز.
عبد الله: نعم، المجلد السادس.
التائه: تفضل.
عبد الله: افتح بنفسك صفحة (309) واقرأ.
التائه: سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال التالي: ذكرت قصة في إحدى الإذاعات تقول: إن ولداً سأل أباه عن الله فأجاب الأب بأن الله موجود في كل مكان، السؤال ما الحكم الشرعي في حكم هذا الجواب؟
الجواب: هذا الجواب باطل وهو من كلام أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سار في ركابهما، والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه في السماء فوق العرش فوق جميع خلقه كما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع سلف الأمة، كما قال الله عز وجل (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )[الأعرافـ54]، وكرر ذلك سبحانه في ست آيات أخرى في كتابه العظيم ومعنى الاستواء عند أهل السنة هو العلو والارتفاع فوق العرش على الوجه الذي يليق بجلال الله سبحانه لا يعلم كيفيته سواه كما قال مالك رحمه الله لما سئل عن ذلك: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، ومراده رحمه الله والسؤال عن كيفيته هذا المعنى جاء عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن وهو مروي عن أم سلمة رضي الله عنها وهو قول جميع أهل السنة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة الإسلام وقد أخبر سبحانه في آيات أخر أنه في السماء وأنه في العلو كما قال سبحانه (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) [غافرـ12]، وقال عز وجل ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ )[فاطرـ10]، وقال سبحانه (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرةـ255]، وقال عز وجل (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك:16ـ17]، ففي هذه الآيات وفي آيات كثيرة من كتاب الله الكريم صرح سبحانه أنه في السماء وأنه في العلو وذلك موافق لما دلت عليه آيات الاستواء وبذلك يُعلم أن قول أهل البدع بأن الله سبحانه موجود في كل مكان من أبطل الباطل وهو مذهب الحلولية المبتدعة الضالة بل هو كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه وتكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من كون ربه في السماء مثل قوله صلى الله عليه وسلم (ألا تأمنوني، وأنا أمين من في السماء) وكما جاء في أحاديث الإسراء والمعراج وغيرها والله ولي التوفيق.
التائه: الله أكبر، كلام الشيخ واضح كوضوح الشمس جزاه الله خيراً، وجزاك الله خيراً يا شيخ حقا هذه العقيدة التي يجب ألا أعتقد سواها.
عبد الله: اسأل الله لي ولك العلم النافع والعمل الصالح، إلى لقاء آخر نتواصل ونتناصح، ونتواصى بالحق والحمد لله أولا وآخر وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.