تهميش الشعوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد روى البخاري واللفظ له [2558] ومسلم [4727] في صحيحيهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته ، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها ، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته. قال: فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال : والرجل في مال أبيه راع ومسؤول عن رعيته ، فكلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته)). لقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، فيتكلم بكلمات قليلة المبنى عظيمة المعنى، وفي هذا الحديث ذكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمرين اثنين، أحدهما أن لكل إنسان مهنة واختصاصًا، والثاني أنه مسؤول عما استرعاه.
أخي القارئ الكريم، إن كثيراً من الناس يدرك من هذا الحديثِ الأمرَ الثاني دون الأول، فيظهر لهم جلياً أن الكل مسؤول عن رعيته لكن يخفى عليهم أن لكلٍ اختصاصه ومهنته. لذلك تجد «العامة يتكلمون بالأمور العامة» أي أن عامة الناس يتكلمون في الأمور المهمة المصيرية التي تهم عامةَ الأمة؛ كمسائل الحرب والسلم والصلح والمعاهدات والسياسة والاقتصاد والصفقات والعلاقات الدولية وغيرها مما هو ليس من اختصاص العامي والجاهل والمرأة العجوز والشيخ الكبير والأمي وسائر أفراد المجتمع.
أخي القارئ، وفقني الله وإياك استمع لقوله تعالى (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء 83]، وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء 59]. والمراد بأولي الأمر هم العلماء والأمراء سُمُّوا بذلك لأنهم يتولون أمور الناس الشرعية والدنيوية، فهم أعلم وأدرى بما يصلح شأن العباد والبلاد، أما العلماء فهم من تمسك بالكتاب والسنة وأفتوا بما يسألهم عنه ربنا جل وعلا، وأما الأمراء فهم من ولاهم الله تعالى أمر الرعية ومسؤولون عما استرعاهم الله تعالى، وأما عامة الناس (الشعوب) فلا يحق لهم التدخلُ والمشاركة في صنع قرار الدولة ولا إصدارُ حكم شرعي؛ لأن هذا ليس من اختصاصهم، بل ولا يفهمون فيه ولا يحسنونه. نعم لكلِّ صاحبِ اختصاصٍ اختصاصُه، ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب، فلا نتصور أن مهندسًا معماريًا يحق له أن يقرر أو يشخّص حالة رجل مريض أن تُجرى له عملية جراحية أم لا؟! لأن ذلك من اختصاص الطبيب ثم الأطباء لهم اختصاصاتهم، فلا يمكن لطبيب الأسنان أن يقرر في حالة رجل مريض بمرض القلب أن تُجرى له عملية أم لا؟! بل وأطباء القلوب لكلٍ اختصاصه، وهكذا مع أن المهندس لو أفتى في شأن ذلك المريض لكان غاية ما يبلغه من السوء أن يهلك المريض، بينما إذا تكلم غير صاحب الاختصاص في مصير أمة أو بلد فإنه سيُضيع على الناس دينهم ودنياهم فتأمل هذا.
أخي القارئ العزيز، رحمني الله وإياك، لو رجعنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً إلى أيام (احتلال الكويت) لتذكرنا تلك الفتنة التي عصفت بالبلاد والعباد، وكادت تدخلنا خنادق من الظلام، الله تعالى وحده أعلم بما كنا سنؤول إليه من سوء الحال، فلقد استبيحت البلاد بأسرها واجتمع الأمراء بالعلماء وقرروا أن يستعينوا بالقوات الأجنبية لدفع الصائل المعتدي، ووفقهم الله تعالى إلى ذلك واندفع الشر وكشفت الغمة وانطفأت الفتنة ورجع الحق إلى أصحابه. لكن ثمة فئة من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام كانوا قد اعترضوا على ذلك القرار الصائب، فجمعوا الشباب وأثاروا الفتن ووصفوا ولاتهم وعلماءهم بأقبح الأوصاف ونعتوهم بأبشع النعوت، ولقبوهم ولمزوهم بما لا يرضي اللهَ تعالى ولا رسولَه!! وكانوا يتكلمون بكل ثقة وكأن الغيب كشف لهم وزعموا أنهم يفهمون غيرهم ويرون ما لا يرى العلماء، فهم فقهاء الواقع وغيرهم - وإن كانوا يحملون شهادات شرعية - لا يفهمون من الواقع شيئاً ثم ما لبثوا إلا أشهراً قليلة وظهر أمرهم وبان لكل من له بصر وبصيرة أن الحق مع العلماء لا مع أولئك السفهاء لكن حقًا (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) لم يعترفوا بأخطائهم بل استمروا بالفتن مستخدمين مصطلحاً خبيثاً ضالاً بعنوان (عدم تهميش الشعوب)، فيقولون واجب على الحكومات ألا تهمش الشعوب وتعطيهم الحق في اختيار ممثلهم ولهم الحق في تحديد مصيرهم!! والشعوب كما لا يخفى على كل ذي لبٍ فيهم الغث والسمين، والغاش والأمين، والمسلم والكافر، فهل يعقل أن نُشرِك عامةَ الناس على جميع طبقاتهم في صنع القرار وتحديد المصير؟!
لقد اقتنع - وللأسف الشديد - كثير من الناس فانصرفوا عن واجباتهم العينية إلى الخوض فيما لا يعنيهم!! حتى العجائز اليوم يحللن تحليلات سياسية ويتكهَّن ما سيحدث في مصير الدول، ومن السفهاء من يرفع سماعة هاتفه ليشارك في (نقطة حوار) عن مستقبل البلد أو العلاقات الخارجية، فيقول له المذيع تفضل يا أخي «فلان» أنت على الهواء، نود أن نسمع وجهة نظرك عن زيارة الرئيس الفلاني وما ستتمخض عنه قمة لقاء الرئيسين من قرارات!! الله أكبر ركب البحر من لا يحسن الملاحة فما ظنكم هل سينجو من الغرق؟!
والخلاصة أن الواجب على كل مسلم أن يتفقه في الدين وليعلم أنه راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته و..و..و..إلخ، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته و«مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» الترمذي [2487] ابن ماجه [4111]، وفق الله الجميع إلى ما فيه الخير والسداد، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.