حديث «وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ» يجهله كثيرون ويتجاهله آخرون
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم وهما أصح كتب الحديث عن النبي -صلى عليه وسلم- أنه بايع أصحابه -رضي الله عنهم- على أن لا ينازعوا الأمر -أي الحكم أهله-، وأهله هم الذين ولاهم الله تعالى الملك والحكم وابتلاهم به.
قال التابعي جُنَادَةُ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ -رحمه الله تعالى-: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ الله؛ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ الله بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ الله فِيهِ بُرْهَانٌ». [أخرجه البخاري (٧٠٥٥) ومسلم (١٧٠٩) ]
اعلم أخي المسلم أن الإمارة أو الحكم مسؤولية عظيمة، يُسأل عنها المرء يوم القيامة، حتى لو تأمر على اثنين أو ثلاثة، والله تعالى يؤتي ملكه من يشاء، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة البقرة (٢٤٧)].
وقال تعالى : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}. [سورة آل عمران (٢٦)].
وهذا الملك يؤتيه من يشاء لا لأنه أحق به من غيره وإنما يكون إبتلاءً واختباراً للحاكم يحاسبه الله تعالى عليه يوم القيامة . وهذا الملك أو الحكم كما أنه ابتلاء للحاكم؛ فهو كذلك ابتلاء للمحكوم، فأوجب الله تعالى على الحاكم أن يحكم بالقسط ويتقي الله تعالى في رعيته، وأن يكون ناصحاً لهم، فهو راع ومسؤول عن رعيته.
وأوجب على المحكوم السمعَ والطاعةَ بالمعروف والصبر على آذاه والنصيحةَ له بالتي هي أحسن للتي هي أقوم، وأن لا ينازعه في حكمه. والواجب على الحاكم والمحكوم والرجل والمرأة والصغير والكبير والعالم والعامي والجن والإنس وكل مكلف أن يحكموا بما أنزل الله تعالى وكل بحسبه، ولا يستثنى أحد من وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى .
والله تعالى خلق الموت والحياة للابتلاء والاختبار، ومن ذلك أنه تعالى يبتلي الحاكم برعيته، ويبتلي الرعية بالحاكم كما قال تعالى: {وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ۗ} [سورة محمد (٤)].
والسؤال الذي نحتاج الجواب عليه جميعاً: إذا قصر الحاكم أو ظلم أو استأثر بالأموال، أو نشر الفساد أو سلط على رعيته المفسدين، أو قدم من لا يستحق وأخّر من يستحق، أو غير ذلك مما هو دون الكفر البواح الأكبر المخرج من ملة الإسلام؛ فما الواجب على الرعية اتجاهه؟ وماذا يحرم عليهم؟
الجواب: لقد أكمل الله تعالى الدين، وأتم به علينا النعمة، ورضيه لنا ديناً، وقطعاً إذا بلغ الأمر فينا كما في السؤال؛ فاعلم أن الله تعالى لم يتركنا هملاً بلا توجيه ولا تشريع، بل ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ما سيحدث في أمته وأن علينا الآتي:
١/ الصبر حتى الممات وليس للصبر حدود، والصبر ضياء فيه حرارة ومنافع، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة البقرة (٢٤٩)].
٢/ النصيحة بآدابها مع الإخلاص والصدق والإتقان وحب الخير للمنصوح له و(الدين النصيحة).
٣/ التوبة النصوح، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [سورة (٢٢٢)]، وإذا كثر فساد الرعية فإن الله تعالى قد يعاقبهم بالراعي، قال تعالى: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
٤/ التقوى، وبالتقوى يفتح الله علينا بركات السماء والأرض، ويرفع عنا البلاء كما في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ }. سورة الأعراف (٩٦)
٥/ أن نؤدي الذي علينا ونسأل الله تعالى الذي لنا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم) [أخرجه البخاري (٣٦٠٣) ومسلم (١٨٤٣)]
٦/ أن لا ننزع يداً من طاعة ولا ننازعه على الحكم، لحديث: (وأن لا ننازع الأمر أهله). رواه البخاري ومسلم
هذا ما شرعه الله تعالى لعباده رحمة بهم وإحساناً، لكن أكثر الناس إما يجهلون أو يتجاهلون، فتقع الفتن بسبب الضلال الجهل أو سوء الإرادة، وذلك عندما يعلم الإنسان الحق ويتعمد مخالفته.
وما ذكرته هو السبيل الشرعي بخلاف السبل الباطلة، والتي أكثرها سُبل شياطين الإنس والجن، من الكفرة والمبتدعة ومنها:
١/ الخروج على الحاكم بما يسمى بالانقلاب، إما بالقول والفعل، أو بالقول فقط الذي يفضي إلى الفعل، وفي هذا فساد عريض ما زالت الأمة تعاني منه منذ قرون إلى يومنا هذا .
٢/ المظاهرات والمسيرات والاعتصامات التي أفتى العلماء بتحريمها، وظهرت مفاسدها وآثارها السيئة للقاصي والداني.
٣/ والوعيد الشديد للحاكم والتشهير بعيوبه وتحريض الرعية عليه .
٤/ المطالبة بطريقة الكفار بأن يكون الحاكم صوريًّا بلا حكم، وحكمه مجرد منصب شرفي لا يأمر ولا ينهى ولا يثيب ولا يعاقب.
٥/ أن يسلب حقه في تعيين ولاته وعماله، ويؤول الأمر إلى غيره.
٦/ المطالبة بإستبداله بحاكم آخر بعد سنوات معينة، بحيث لا يستمر في الحكم سوى مدة محدودة .
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
اللهم اصلح ولاة أمورنا وارفع عنا البلاء واكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.