(وَللّه الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، أما بعد:
فالواجب على كل مسلم أن يصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الثابتة، وأن نؤمن بأن الله تعالى له صفات الكمال والجلال والجمال والعظمة والكبرياء على الوجه اللائق به مع تنزيهه عن مماثلة المخلوقين، فهو كما قال عن نفسه جل وعلا (ولله الْمَثَلُ الأَعْلَى) [النحل 60]، وهذا أسلوب حصر، حيث قدَّم العامل على معموله، فقال (ولله الْمَثَلُ الأَعْلَى)، ولم يقل المثل الأعلى لله، وهذا مثل قوله (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم 27]، والمراد بالمثل الأعلى أي الوصف الكامل الأعلى الذي لا شيء أعلى منه، فالله تعالى ليس له كفؤ كما قال تعالى (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص 4]، وليس له سَميٌ؛ كما قال تعالى (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم 65]، وليس له ند كما قال تعالى (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة ـ 22]، وليس له مثيل؛ كما قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى 11]، فلا كفؤ يكافئه ويساويه، ولا سمي يساميه ويشابهه، ولا ندَّ أي؛ لا نظير ولا شريك له، ولا مثيل يماثله في صفاته، وذلك لكماله من كل وجه، له صفات الكمال والجلال؛ كما قال تعالى (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الأعراف 180]، وأسماؤه دالة على صفاته، فليس من أسماء الله تعالى اسم جامد لا معنى له، بل كلها أسماء مشتقة دالة على صفات معان عظيمة فهو (الرحمن) ذو رحمة واسعة، و(الرحيم) ذو رحمة واصلة، و(العليم) علمه بكل شيء محيطٌ به، و(السميع البصير) لكل مسموع ومرئي، وهكذا سائر أسماء الله تعالى الحسنى البالغة في الحسن الكمال تدل على صفات عظيمة لله تعالى على الوجه اللائق به، ولا يجوز بحال من الأحوال تعطيلها ونفيها عن الله تعالى وقد أثبتها الله تعالى لنفسه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، بل الواجب الإيمان بذلك كله؛ لأن الله تعالى أعلم بنفسه من خلقه وبخلقه، قال تعالى (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) [البقرة ـ 140]، ورسوله صلى الله عليه وسلم صادق مصدق، قال تعالى (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات-37]، فمن عطَّل اللهَ عن أسمائه وصفاته أو عن بعضها فقد كذَّب اللهَ تعالى ورسولَه صلى الله عليه وسلم.
ويجب مع الإيمان بما لله من الأسماء والصفات نفيُ التمثيل، وقد جمع الله تعالى لنفسه هذين الأصلين في آية واحدة من كتابه من سورة الشورى (11) فقال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، فقوله (ليس كمثله شيء): نفي للتمثيل، وقوله (وهو السميع البصير): إثبات السمع والبصر، ولذلك لا نحتاج إلى تحريف كلام الله عن مواضعه كما يفعل أهل البدع والأهواء الذين يسمون تحريفهم (تأويلاً وتنزيهاً)؛ لأنهم ظنوا بالله تعالى ظن السوء، واعتقدوا أن إثبات الصفات لله تعالى يلزم منه التمثيل، ففروا مما وقع في قلوبهم أولاً من التمثيل، فعطلوا صفات الله تعالى الواجبة له بطريقتين اثنتين:
الطريقة الأولى: التعطيل الصريح المباشر؛ كما فعلت الجهمية والمعتزلة.
الطريقة الثانية: التعطيل غير الصريح كما فعلت الأشاعرة والماترودية وسموه تأويلاً وتنزيهاً، والمصير والنتيجة واحدة، كلهم معطلة نفاة لما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.
أخي القارئ الكريم، كلُّ ما تقدم ذكرُه هو مذهب أهل السنة والجماعة وسلفِ هذه الأمة المقرر في مصنفات الأئمة المحققين، والذي يجب على كل مسلم أن يعتقد ويدين الله تعالى به. ولا شك أن أهل البدع والأهواء الذين لا يقيمون للنصوص وزناً لا يفترون عن إلقاء الشبه بين الحين والآخر، فهم أهلها كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى- (وكان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول في مسائل العلم الخبرية ومسائل الأحكام العلمية يسمونهم: أهل الشبهات والأهواء؛ لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم، وغايته الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة) [إغاثة اللهفان 2/850]. وصدق - رحمه الله - وكأنه يعيش بيننا اليوم، بل كأنه دخل إحدى الكليات، فسمع بعض الدكاترة وهو يلقي بسمومه وشبهاته على الطالبات طارحاً عليهن سؤالًا سخيفاً تافهاً فيه ما فيه من التطاول على الله تعالى مما تشمئز منه نفوسُ عامة المسلمين، يريد من ورائه الترفع عليهن وإظهار عجزهن عن الجواب عن سؤاله، وهكذا يفعلون منذ القديم إلى يومنا هذا ظانين أنهم يعرفون ما لا يعرف غيرهم، ويقدرون على مناقشة أهل الكلام، بينما زعموا أن أهل الحديث يعجزون عما يقدرون هم عليه وهذا الأسلوب الفلسفي ما أنزل الله تعالى به من سلطان.
أخي القارئ الكريم، أتدري بما يهذي هذا المبتدع؟ الذي يدعى الدكتور "خالد" يريد أن يصف الله تعالى بالممتنع المستحيل، فيقول نصاً: (هل يستطيع الله أن يعدم نفسه؟) ومن المعلوم بالضرورة أن الله تعالى حي لا يموت؛ كما قال تعالى (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) [غافرـ 65]، وقال (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان58]، وقال تعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة آية الكرسي 255]، والأدلة النقلية والعقلية والحسية والفطرية كلها تدل على ذلك مما لا يدع للشك مجالاً، ولا ينكره إلا مكابر. ومن المعلوم أن الموت والحياة وصفان متقابلان تقابل النقيضين، وكل متقابلين تقابل النقيضين فإنهما لا يجتمعان ولا ينتفيان؛ وإنما إذا ثبت أحدهما انتفى الآخر، فلا يقال لشيء واحد حي وميت، كما لا يقال لا حي ولا ميت، وإنما يقال حي ليس بميت، أو ميت ليس بحي. فإذا قال المبتدع هل يستطيع الله تعالى أن يهلك نفسه أو أن يموت؟ قلنا له أنت تريد أن تجمع بين المتقابلين تقابل النقيضين اللذين لا يجتمعان ولا ينتفيان، وهذا ممتنع ومستحيل، والمستحيل لا يطلبه ولا يسأله العقلاء، فلا يمكن أن يكون الله تعالى الحي الذي لا يموت وفي الوقت ذاته يموت، فهذا ممتنع غاية الامتناع. أما شبهته الثانية فيقول:(هل يستطيع الله تعالى أن يخلق إلهاً مثله؟! يعني الله يخلق الله مثله) هذا نص كلامه. فأقول: سبحان الله وتعالى عما يقولون إذ أن السؤال باطل أصلاً، ولا يقوله عاقل؛ لأنه جمع بين متقابلين تقابل النقيضين، فالمخلوق لا يصلح أن يكون إلهاً قال تعالى (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ)[الفرقان 3]، والمخلوق ممكن الوجود، والخالق واجب الوجود، وما من شيء إلا وهو إما واجب الوجود أو ممكن الوجود، ويمتنع عقلاً وشرعاً أن يوجد في الخارج شيء واجب الوجود وممكن الوجود أبداً، بل إما واجب الوجود ليس ممكن الوجود، أو ممكن الوجود ليس واجب الوجود.
فالقاعدة: أن كل متقابلين تقابل النقيضين لا يجتمعان ولا ينتفيان، بل إذا وجد الأول انتفى الثاني (نقيضه) وإذا وجد الثاني انتفى الأول (نقيضه) انظر الشرح الممتع لشيخنا ابن عثيمين (5/322) الطبعة الأولى.
أخي القارئ الكريم، أرأيت كيف زين الشيطان لهؤلاء سوء عملهم؟ فبينما يعطلون الله تعالى عن صفاته الواجبة له الثابتة في الكتاب والسنة زاعمين أن تحريفهم إنما هو من باب التنزيه لله تعالى، تجدهم يطرحون هذه الشبهة، ظانين أن أهل السنة عاجزون عن الرد عليهم، كما زعموا زوراً وبهتاناً أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى كان يستعين بالمعتزلة في الرد على الفلاسفة!! بهذه الافتراءات يفضحون أنفسهم، حتى ظهروا أمام العامة والخاصة أن بضاعتهم في العلم مزجاة!! وجهلهم مركب، فأحدُهم جاهل ويجهل أنه جاهل!!
هذا وأسأل الله أن يثبتنا وكل مسلم على الحق، ويهدي ضال المسلمين والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.