(وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لحُكْمه)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن الله تعالى خلقنا لعبادته وحده لا شريك له، قال تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)) (الذاريات)، وشأن العبد أن يطيع مولاه بما يأمره وينتهي عما ينهاه عنه، وبقدر ما ينقاد الإنسان لأمر ربه بقدر ما يحقق العبودية التي من أجلها خُلق. إن العبودية لله تقتضي غاية الخضوع والتذلل لأمر الله تعالى بامتثال المأمور واجتناب المحظور مع غاية الحب والخوف والرجاء، وهذا المعنى الذي يجب على كل مسلم ومسلمة معرفته ويجب ألا يغفل عنه ويجاهد نفسه في تحقيقه، ومن ذلك أن يسلم لحكم الله تعالى الشرعي ولا يعارضه بعقله ولا هواه، قال تعالى (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرعد- 41)، وقال تعالى (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (يوسف-40)، وهذا يشمل كل ما حكم الله تعالى به من مسائل الإيمان والاعتقاد، ويشمل أحكام العبادات كما يشمل الحدود والعقوبات، ويشمل أيضاً أحكام المعاملات، وغير ذلك بلا استثناء، فلا حق للعبد أن يعقب على حكم الله تعالى فيقول: لمَ أمرت بكذا أو نهيت عن كذا، أو حرمت كذا أو أبحت كذا، لأن الله تعالى (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)) (الأنبياء (. لذا نجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم استجابة تامة لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى عنهم (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)) (البقرة)، فرضي الله عنهم وأرضاهم، كان عندهم استجابة تامة في الإيمان بالغيبيات وامتثال في الأحكام ولم يفرقوا في شيء من الدين، ولم يفرطوا في جانب من جوانبه .
أخي القارئ الكريم، ليس للمؤمن ولا للمؤمنة أن يتخير في أمر الله ورسوله فيفعل ما تهوى نفسه ويدع ما لا يشتهي فهذا خلل بالإيمان ونقص فيه، قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) (الأحزاب)، وقال تعالى (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) (النور-51). هكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصديق مطلق وطاعة مطلقة لا يعقبون على خبر الله ورسوله ولا يعقبون على حكم الله ورسوله فنالوا ما نالوا من الشرف والرفعة والدرجات العلى، ولو قارنّا حالهم - رضي الله عنهم - بحال بني إسرائيل لوجدنا الفرق واضحاً جلياً، قال تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)) (البقرة (. أخي القارئ وفقني الله وإياك إلى كل خير، قارن أيضا بين موقف الصحابة رضي الله عنهم وبين موقف المنافقين عندما رأوا الأحزاب يوم الخندق، قال تعالى (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)) (الأحزاب:12-13). بينما قال الله تعالى عن المؤمنين وهم الصحابة قطعاً (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)) (الأحزاب-22).
أخي القارئ الكريم اعلم رحمني الله تعالى وإياك أن المسلمين اليوم قد فرطوا كثيرا وظلموا أنفسهم فهذا يتكلم بغير علم وذاك يحكم بهواه، وآخر يفرق بين العقيدة والشريعة، وبعضهم يرتضي عقيدة الكتاب والسنة ومنهج فلان أو مذهب فلان، وآخرون يشرعون ما لم يأذن به الله تعالى ومنهم من يقول أنا غير مقتنع وبعضهم يقول تغيّر الزمان، وكأن العبد الذي هو عبد أصبح له الخيار يعتقد ما يشاء ويمتثل ما يريد ويعقب كيفما اتفق، فالأمر خطير جداً والواجب السمع والطاعة والسعي لتحقيق العبودية الحقة لله تعالى والتي حقيقتها غاية الخضوع والتذلل مع غاية الحب والخوف والرجاء.
أخي القارئ وفقني الله تعالى وإياك لكل خير، ختاما سأذكر لك حادثة كنت أتعجب منها وما زلت من استجابة الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي صلى الله عليه وسلم الاستجابة المطلقة، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاته قال: «ما حملكم على إلقائكم نعالكم»؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً" أو قال أذى،..... الحديث" (رواه أبو داود في سننه (650) وصححه الألباني في الإرواء (284)). فتأمل يا عبد الله كيف تابعوا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه خلع نعليه بادروا فخلعوا نعالهم من غير أن يأمرهم بذلك ولم يعرفوا السبب ولم ينتظروا حتى يأمرهم بينما أحدنا اليوم ربما بعد سياق الأدلة الكثيرة قد يمتثل وقد لا يمتثل!!
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، والحمد لله أولا وأخرا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.