موقع الشيخ
حفظه الله
سالم بن سعد الطويل

السياسة العادلة والسياسة الباطلة

3 ذو الحجة 1429 |

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن الناس لا بد لهم من سياسة يتحقق بها القيام بدين الله تعالى والقيام بما يصلح به أمر الدنيا من مصالح العباد. ومما لا شك فيه أن السياسة إذا وافقت الشرع كانت سياسة عادلة ومستقيمة لأنها من عند الله تعالى أما إذا كانت مخالفة للشرع فهي سياسة باطلة لقوله تعالى "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ"[يونس- 32]، ولقوله تعالى "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا" [النساء- 82]. وعلى هذا كلما كانت السياسة أقرب إلى الشريعة كانت أعدل وأقوم وكلما بعدت عن الشريعة كانت أضل وأظلم. فلا سياسة إلا السياسة الموافقة للشرع التي هي جزء منه لا تنفك عنه، ومتى ما خرجت السياسة عن الشرع كانت سياسة باطلة، لذا قال الشافعي رحمه الله تعالى: لا سياسة إلا ما وافق الشرع (نقلها عنه ابن عقيل الحنبلي- بدائع الفوائد [152/3]). ومما لا ريب فيه أن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وأكمل له ولأمته الدين وأتم عليه وعلى أمته نعمته وبين لهم كل شيء يحتاجون إليه في العقيدة والعبادة والمعاملات وغير ذلك فلا يمكن أن يهمل ما يحتاجون إليه في السياسة حتى يحيلهم إلى عقولهم وأهوائهم فهذا محال. وهنا يحسن أن أنقل لك أخي القارئ كلاما جميلا بديعا من كتاب بدائع الفوائد لابن القيم رحمه الله تعالى (3/ 155-156) لعل الله أن ينفعني وإياك به.

قال رحمه الله تعالى:

"والسياسة عادلة فهي جزء من الشريعة وقسم من أقسامها، لا قسيمتها. وسياسة باطلة، مضادة للشريعة مضادة الظلم للعدل"، إلى أن قال "فهذا الفصل هو فرق ما بين ورثة الأنبياء وغيرهم، وأصله مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالسنة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم، التي بها صلاحهم في معاشهم ومعادهم، وأنه لا حاجة إلى أحد سواه البتة وإنما حاجتنا إلى من يبلغنا عنه ما جاء به، فمن لم يستقر هذا في قلبه، لم يرسخ قدمه في الإيمان بالرسول، بل يجب الإيمان بعموم رسالته في ذلك، كما يجب الإيمان بعموم رسالته بالنسبة إلى المكلفين، فكما لا يخرج احد من الناس عن رسالته البتة، فكذلك لا يخرج حق من العلم به والعمل عما جاء به، فما جاء به هو الكافي الذي لا حاجة بالأمة إلى سواه، وإنما يحتاج إلى غيره من قل نصيبه من معرفته وفهمه، فبحسب قلة نصيبه من ذلك تكون حاجته، وإلا فقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي، وآداب الجماع، والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة، والجنة والنار، ويوم القيامة، وما فيه حتى كأنه رأي عين، وعرفهم بربهم ومعبودهم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه بما وصفه لهم به من صفات كماله، ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من أحوال طرق الخير والشر، دقيقها وجليلها، ما لم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم من احوال الموت وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل من النعيم والعذاب للروح والبدن ما جلّى لهم ذلك، حتى كأنهم عاينوه. وكذلك عرفهم من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد، والرد على جميع طوائف أهل الكفر والضلال، ما ليس لمن عرفه حاجة إلى كلام أحد من الناس البتة، وكذلك عرفهم من مكائد الحروب ولقاء العدو وطرق الظفر به، ما لو علموه وفعلوه، لم يقم لهم عدو أبدا. وكذلك عرفهم من مكائد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها ويحترزون بها من كيده ومكره، وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه. وبذلك أرشدهم إلى معاشهم إلى ما لو فعلوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.

وبالجملة، فقد جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير الدنيا والآخرة بحذافيره، ولم يجعل الله بهم حاجة إلى أحد سواه، ولهذا ختم الله به ديوان النبوة، فلم يجعل بعده رسولا، لاستغناء الأمة به عمن سواه، فكيف يظن أن شريعته الكاملة المكملة محتاجة إلى سياسة خارجة عنها؟! أو إلى حقيقة خارجة عنها؟! أو إلى قياس خارج عنها؟! فمن ظن ذلك، فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك، قال تعالى "أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [العنكبوت- 51]، وقال تعالى "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ"[النحل- 89] وقال تعالى "إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"[الإسراء- 9]، وقال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ" [يونس- 57]،

وكيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يفي بعشر معشار ما الناس محتاجون إليه على زعمهم الباطل؟! ويالله العجب؟ كيف كان الصحابة والتابعون قبل وضع هذه القوانين واستخراج هذه الآراء والمقاييس والأقوال؟ هل كانوا مهتدين بالنصوص؟ أم كانوا على خلاف ذلك حتى جاء المتأخرون أعلم منهم واهدى منهم؟ هذا ما لا يظنه من به رمق من عقل أو حياء نعوذ بالله من الخذلان. ولكن من أوتي فهما في الكتاب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم استغنى بهما عن غيرهما بحسب ما أوتيه من الفهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وهذا الفصل لو بسط كما ينبغي لقام منه عدة أسفار ولكن هذه لفظات تشير إلى ما وراءها". انتهى كلامه رحمه الله تعالى . اسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين والحمدلله اولاً واخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه اجمعين .

المقالات