الشُّبَهُ خَطَّافة
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه ما بدا الفجر وأنور، وعلى آله وصحبه خيرِ صحبٍ ومعشرٍ وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فمما ينبغي على كل مسلم أن يحرص كلَّ الحرص على سلامة قلبه من الشُّبه التي تفسد عقيدته، وذلك بعدم تمكين سمعه من سماع ما يوحي به الشيطانُ إلى أوليائه ليجادلوا به المسلمين، وليشككوهم في دينهم، قال تعالى:(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)) [الأنعام- 121]. ذكر ابنُ كثير - رحمه الله تعالى- في تفسيره ما خلاصته: أن بعض المشركين أوحى إليهم الشيطانُ أن اسألوا المسلمين لماذا الذبيحة التي تذبحونها بالسكين حلال والميتة التي أماتها الله تعالى حرام؟! فنزلت الآية وفيها بيان الفرق بين الذبيحة والميتة، فقال:( وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)، أي: الميتة، وهذه بخلاف الذبيحة التي يمكن للذابح أن يذكر اسم الله عليها قبل ذبحها، (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) أي: خروج عن طاعة الله وشرعه، (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ)، وفي هذا بيان أن الشياطين يتعاونون مع أوليائهم من المشركين في تجميع الشُّبَه وطرحها على المسلمين. (لِيُجَادِلُوكُمْ) أي: لمجرد الجدال والتشكيك في عقائد المسلمين، لا لإحقاق الحق ولإبطال الباطل، وهذا كقوله تعالى (شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام- 112]. ثم قال تعالى (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ)، أي: في تحليل الميتة وجعلها كالذبيحة التي حرمها الله تعالى كما فعلوا في الربا، فقالوا (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) [البقرة- 275] وهنا يقولون الميتة مثل الذبيحة، فبين الله تعالى هناك أن البيع حلال والربا حرام، فقال (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) [البقرة- 275]، وبين هنا أن الذبيحة يذكر الذابح عليها اسم الله تعالى بخلاف الميتة، وهي التي خرجت روحها حتف أنفها من غير ذكاة شرعية ولا اصطياد.
أخي القارئ الكريم، تأمل ما رواه البخاري [3276] ومسلم [134] من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق كذا؟ ومن خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ). فما أعظم هذا الحديث في بيان العلاج الناجح لدحض الشبه والقضاء عليها، وذلك بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم الذي هو مصدر هذه الشبه ثم بالانتهاء وعدم الاسترسال.
فائدة نفيسة وقاعدة ذهبية
أخي القارئ العزيز، لقد استنبط بعض العلماء فائدة نفيسة وقاعدة ذهبية من حديث الدجال الذي يخرج آخر الزمان من قوله صلى الله عليه وسلم (من سمع به فلْينأَ عنه) رواه أبو داود [4319] وصححه الألباني في مشكاة المصابيح [5488] ، أي: ليبتعد عنه حتى لا يسمع منه فَيُفْتَنَ به!! فقالوا: الواجب على المسلم ألا يعرض دينَه واعتقادَه وقلبَه إلى الشبه، فربما خطفت قلبَه شبهةٌ أو تشرَّبها أو تشوش وتشكك بها، وهذا يقع كثيراً، فقد يسمع الإنسان الشبه القوية ثم يبحث عن جواب لها فلا يجد جوباً أو يجد جواباً ضعيفاً ليس بحجم الشبه، أو لا يقتنع به أو يصعب عليه فهمه واستيعابه أو لا يجد من يصيغ له الجواب بطريقة تناسبه، ومن هنا تحصل الخطورة ويبدأ الزيغ والضلال.
إيراد الشبه
لذا كان شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - يقول: (إيراد الشبه إذا لم تكن قريبةً لا ينبغي) بمعنى أن الشبه إذا لم تكن واردةً على أذهان الناس كما يقال أنها تطرح نفسَها فلا ينبغي إيرادها للناس ثم تبحث عن جواب لها فتقول إذا قيل كذا وكذا فكيف نرد عليهم . اهـ.
وما أجمل ما نَصح به شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تلميذَه ابنَ القيم رحمه الله كما ينقل لنا ذلك ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة المجلد الاول صفحة [ِِِ140] (وقال لي شيخ الإسلام رضى الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد؛ لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها، فلا ينضح إلا بها ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وإلا فإذا أَشربتَ قلبَك كلَّ شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات أو كما قال. فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك ) اهـ . ومن الناس من يورد هذه الشبه ليستعرض مقدرته على الرد عليها وتفنيدها، وهذا من عمل الشيطان ولا شك.
أخي القارئ، رحمني الله وإياك، إذا علمت هذا عرفت خطأ ما يفعله بعض الإخوة وما تعرضه بعض وسائل الإعلام من عقد المناظرات مع أهل البدع والأهواء والملحدين وغيرهم وتمكينهم حتى يقوم بعضهم بطرح ما شاء من الشبه، وعامةُ المسلمين يسمعون، فالله أعلم كم من قلب خطفته هذه الشبه! وكم مسلم تشكك بعقيدته! وكان الواجب المحافظة على سلامة القلب وصفاء العقيدة وعدم تمكين هؤلاء من نشر سمومهم وإلحادهم. ولا يُردُّ على هذا كون هناك من استفاد من هذه المناظرات؛ لأن المحافظة على سلامة عقيدة المسلمين وأهل السنة أولى من اقتناع الكفار وأهل البدع ولو تابوا. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.