موقع الشيخ
حفظه الله
سالم بن سعد الطويل

وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢)

14 جمادى الأولى 1429 |

الانتحاريون لا يزيدون أحوال المسلمين إلا ضعفاً ولا يضيفون إلى الإسلام إلا تشويها وتنفيراً

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

فلقد ذكرت لك أخي الكريم في المقال السابق تحريم قتل الإنسان نفسه وأن هذا من الكبائر التي جاء فيها النهي الأكيد والوعيد الشديد لمن تسول له نفسُه أن يقتل نفسَه. ويدخل في هذا الذي يقتل نفسه زاعماً أن هذا الفعل جهاد في سبيل الله. وان الجهاد المشروع الذي كلّف الله به عباده يكون بقدر الاستطاعة فيقاتل المسلم أعداء الله ورسوله من الكفار فيَقْتل أو يُقْتَل لا أن ينتحر بقتل نفسه. وكل ما تقدم ذكره هو الذي دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة وهو الذي أفتى به أهل العلم والفضل. وفي مقالي هذا اريد أن أعرض بعض الشّبه التي تعلق بها بعض المفتونين بالعمليات الانتحارية التي يطلقون عليها "استشهادية".

"الشبهة الأولى"

استدلوا بقوله تعالى: ( وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ) [النساء: 29ـ30] ففهموا من قوله تعالى (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما) أنه لا يحرم أن يقتل الإنسان نفسه جهادا في سبيل الله وليس عدوانا وظلما فلا بأس عليه وغير داخل في الوعيد المذكور في الآية.

والجواب على هذه الشبهة أن من قال ذلك لم يفرق بين النص إن كان له مفهوم أو ليس له مفهوم، والآية المذكورة ليس لها مفهوم وإنما قال تعالى: ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما لبيان الواقع أي أن قتل الإنسان نفسه يعتبر عدواناً وظلماً وليس المراد إن فعله عدوانا وظلماً حرام وأما إن فعله بغير عدوان ولا ظلم فيجوز. وهذا كقوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) [الأعراف ـ 33] فليس معناها أما إذا أشركتم بالله بما أنزل به سلطاناً فلا بأس , لأن لا يوجد شرك بالله أنزل الله به سلطاناً. ومثال آخر قوله (وقتلهم الأنبياء بغير حق) [النساءـ 155] فليس المراد أما إذا قتلوا الانبياء بحق فلا بأس لأن ما من نبي يقتل بحق. ومثال ثالث قوله (ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) [الأنعام ـ 38] فهذا أيضا لا مفهوم له إذ ما من طائر إلا ويطير بجناحيه.

وأما الخطاب الذي له مفهوم كقوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) [المائدةـ 95] فيفهم منه أنه إذا قتل الصيد خطأ فليس عليه كفارة. ومثال آخر من السنة قوله صلى الله عليه وسلم " ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين " رواه البخاري ]1838[، فيفهم منه أن غير المحرمة لها أن تنتقب وتلبس القفازين. فإن قال قائل: كيف نعرف أن قوله (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلماً) ليس له مفهوم؟ فأقول لأن الصحابة رضي الله عنهم قالوا عن عامر بن الأكوع رضي الله عنه لما رجع عليه سيفه وأصاب نفسه: "حبط عمل عامر" حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما فهموا لأنه ما فعل ذلك متعمدا.

وإليك أخي القارئ طرفا من الحديث حتى تكون على بينة قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنياتك؟...... (إلى أن قال): فلما تصاف القوم كان سيف عامر قصيراً، فتناول به ساق يهودي ليضربه ويرجع ذباب سيفه، فاصاب عين ركبة عامر، فمات منه، قال: فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيدي قال: "مالك"؟ قلت له: فداك أبي وأمي زعموا أن عامراً حبط عمله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كذب من قاله، إن له لأجرين" جمع بين إصبعيه "إنه لجاهد مجاهد، قل عربي مشى بها مثله" [أخرجه البخاري 4196[

ومعنى كذب من قاله، أي: أخطأ من قاله والشاهد أن الصحابة رضي الله عنهم قد ثبت في أذهانهم أن من قتل نفسه فقد حبط عمله لكن أخطؤوا في "عامر" رضي الله عنه لأنه لم يتعمد قتل نفسه. وما حصل لعامر بن الأكوع رضي الله عنه يختلف تماماً عن فعل ذلك الرجل الذي قتل نفسه متعمدا في القصة التي أخرجها البخاري في كتاب الجهاد باب]3062[ "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، ومسلم في كتاب الإيمان باب "أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة" ]111[، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: "هذا من أهل النار" فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا وقد مات! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلى النار" فكاد بعض الناس أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جرحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله" ثم أمر بلالاً فنادى في الناس (أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).

" الشبهة الثانية"

استدلوا بقصة الغلام في أصحاب الأخدود التي رواها مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب (3005) وفيها: "....فقال ـ أي الغلام ـ للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتى الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس..... إلخ الحديث. قالوا في هذا الحديث دليل على مشروعية قتل الإنسان نفسه حيث ارشد الغلام الملكَ إلى طريقة يقتله بها.

والجواب على هذه الشبهة كالآتي:

  • هذه القصة وقعت في الأمم السابقة ومن المقرر أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا كما اختار هذا بعض أهل العلم، نعم وقال آخرون بل شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يخالف شرعنا، فأقول: حتى على القول بهذا لا يستقيم الاستدلال به لأنه قد خالف شرعنا كما ذكرنا أن المسلم يحرم عليه أن يقتل نفسه.

  • أن الغلام لم يقتل نفسه وإنما قتله الملك الطاغية والذين يستدلون بالقصة يقولون بقتل الإنسان نفسه.

  • يجوز الاستدلال بالقصة على مشروعية اقتحام المشركين والتنكيل بهم حتى لو تيقن المجاهد أنه سيقتل ولكن لا يجوز أن يقتل نفسه.

  • أن الغلام لم يقتل أحدا بخلاف ما يفعله الانتحاريون فالغالب أنهم يقتلون من لا يستحق القتل ونادرا ما ينالون من العدو المسلح المقاتل بل كثيرا ما يقتلون مسلمين وأطفالاً ونساء وشيوخاً وربما هدموا مباني وقتلوا بهائم وهذا ما لا يقره شرع ولا عقل ولا فطرة.

  • أن ما فعله الغلام كان فيه فتح لأمته فقد آمنوا بالله تعالى وأحرقوا في النار ولقوا الله وهو عنهم راض بخلاف ما يفعله الانتحاريون الذين لا يزيدون أحوال المسلمين إلا ضعفا ولا يضيفون للإسلام إلا تشويها وتنفيراً.

  • والأهم من ذلك كله أن نقول كيف فهم السلف من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين هذه القصة؟ ولماذا على مرّ (العصور) والدهور ما استنبطوا من الحديث مشروعية الانتحار حتى جاء المفتونون وقالوا فيه ما قالوا؟!

ومما قرره أهل العلم والفضل أننا نعتمد الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح وتطبيقهم للنصوص التطبيق العملي وبهذا نمتاز عن سائر أصحاب الأهواء والبدع والمناهج المنحرفة الضالة.

أخي القارئ الكريم لم ننته بعد من مناقشة المفتونين بالعمليات الانتحارية فانتظر إن كان في العمر بقية إن شاء الله وتابع المقال القادم وفيه ذكر كلام بعض العلماء في حكم من يقتل نفسه ظاناً أنه ينال الشهادة في ذلك. والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقالات